أتى وصفُ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي المرحلة بأنها “صعبة جدّاً”، ليطرح علامة استفهام عمّا ينتظره اللبنانيون في الاشهر المقبلة. لا يتعلق الأمر بخطاب سياسي اراده ميقاتي لإحراج أي فريق، ولا بحسابات حضور او مقاطعة جلسات حكومة تصريف الاعمال او المجلس النيابي، ولا لحشرِ أحد على حساب آخرين.
من يعرف ميقاتي، يتأكد فعلاً انه كان آخر جرس للإنذار في لبنان، قرعه رئيس حكومة تصريف الاعمال على طريقته: اللهم اني بلّغت.
ينطلق ميقاتي من علمه بألاّ اموال متبقية في خزينة الدولة لتأمين المستلزمات الضرورية في لبنان: لم يبق سوى ١٢٥ مليون دولار في حساب SDR، التي يمكن للحكومة ان تتصرّف به. واذا كان ميقاتي انقذ البلد في الساعات الماضية من عتمة تامة، بتأمين سبعة ملايين دولار للشركة المشغلة من اصل حوالي ٨٠ مليون دولار التي تشكّل مستحقّات شركات قطاع الكهرباء، فكيف سيؤمّن باقي الإستحقاقات، خصوصاً ان باخرة فيول قادمة الى المرفأ بعد ايام، مع ان لا حاجة لبنانية للفيول الآن.
تتحدّث المعلومات عن ان البنك الدولي يُطالبنا بمبلغ ٤٠ مليون دولار مستحقات على الدولة اللبنانية، واذا تمّ حسمها ايضاً من الحساب ذاته، فماذا يبقى في مخزون هذا الحساب؟ ستتدرج مطالب الوزارات، وخصوصاً الصحة والاشغال والتربية، التي بدأت ترفع الصوت بشأن مطالب ضرورية، فمن اين ستأتي الحكومة بالاموال؟.
لا يوجد سيولة مالية. لم يقبل حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري اقراض الدولة اللبنانية من الاحتياط من دون تشريع نيابي يتضمن خطة اصلاحية لاعادة الاموال التي هي ملك المودعين. بالاساس تطالب حكومة ميقاتي بتشريع قوانين اصلاحية ارسلتها الى المجلس النيابي، لكن القوى السياسية ترفض الاتفاق على الاصلاحات التي لم تعد ترفاً، ولا تتحمل مزيداً من الانتظار. يمكن التباين بين القوى بشأن تلك العناوين الاصلاحية، ولكن المهم هو اقرار اصلاحات، مهما كان نوعها او حجمها، او تم فرض تعديلات عليها.
تحصل حالياً مقاطعة سياسية لجلسات المجلس النيابي، تحت عنوان ان المشاريع المطروحة الواردة من الحكومة او اقتراحات القوانين ليست ضرورية، ولا يمكن حضور الجلسات بغياب وجود رئيس للجمهورية. فمن يرفض انتخاب الرئيس؟ هل هي حكومة تصريف الاعمال التي تعرقل انتخاب رئيس للجمهورية؟ اليس الخلاف بين كل القوى، من دون استثناء، هو السبب؟ خصوصاً ان الاصوات التي نالها المرشحان سليمان فرنجية وجهاد ازعور في جلسة ١٤ حزيران الماضي، تؤكد ان المسؤولية تقع على عاتق الفريقين، لا على فريق واحد بعينه.
ماذا بعد؟.
يستمر الهروب السياسي من الواقع اللبناني المأزوم، فيما يُترك المواطن اللبناني لقدره. لا يتحمل ميقاتي هنا مسؤولية عدم اقرار الاصلاحات المطلوبة، وبالتالي فإن غياب الاصلاحات، يعني غياب ايرادات الدولة وسط نزيف حاد، فتشحّ الصناديق المالية، وتنقطع الكهرباء، ومعها تُفقد الماء، وبعدها الاتصالات، ثم الدواء، والغذاء، وباقي سبل الحياة في لبنان.
يصرّ حاكم المصرف بالإنابة على عدم الصرف من اموال الاحتياط التي هي اموال المودعين، بعدما كانت اعتادت جميع القوى السياسية على حاكم المصرف السابق رياض سلامة بأن يمدّها بالمال لزوم الصرف والشراء من دون اي مسوّغ قانوني، ومن دون ان تكلّف تلك القوى ذاتها لإيجاد موارد مالية لخزينة الدولة. وها هي القوى السياسية نفسها التي استفادت من عطاءات سلامة(اموال المودعين) تركته وحيداً يواجه قدره امام القضاء الذي سيفتح ملفات المصرف المركزي.
اذا كان ميقاتي حالياً يصرّف الاعمال، في اطار ابقاء انتظام عمل المؤسسات، وهو ما ابقى هيكل الدولة موجوداً، لكن، فلنفترض ان رئيس حكومة تصريف الاعمال ومعه الوزراء، اعلنوا انهم قرروا التفرج عن بُعد، كما تفعل سائر القوى السياسية، من دون لا تدخل ولا ارسال مشاريع قوانين، ولا طلب اصلاحات، ولا تأمين سير عمل الدولة على علاّتها، فماذا سيحصل؟
هناك مسؤولية سياسية تقتضي من جميع الافرقاء، المشاركين بالحكومة او المعارضين لها، النزول عن شجرة المواقف السياسية التي باتت لا تُقنع مواطناً عند فقدانه لحاجياته من غذاء و دواء وكهرباء وماء. والاّ فإن الهيكل سيتداعى فوق رؤوس الجميع، بداية من القوى السياسية التي تجهّل الحقيقة عن جماهيرها، وترفض المضي في طريق الانقاذ الوطني.
فعلاً، دخل لبنان في أخطر مساحات النفق، نحو معلوم: انهيار الدولة. فمن يستفيد بعدها؟ لا مكان حينها لرئاسات ولا مناصب ولا نفوذ. ولن يستطيع احد ان يقول “ما خصني”، لأن جميع القوى السياسية شاركت بالحُكومات في فترة ما بعد الطائف وصولاً الى اليوم.