ماذا لو ربحنا البريد… وكسرنا الهيئات الرقابية!؟

حسم ديوان المحاسبة موقفه من ملف البريد. فمصادره اعتبرت أنّ عمل الديوان في ما يتعلق بهذا الملف إنتهى لدى صدور قراره الثاني الذي رفض بموجبه صفقة تلزيم البريد لتحالف شركة ميريت إنفست ش.م.ل. وشركة Colis Privé France. أمّا كسر قرار سلطة الرقابة المسبقة، فتتحمّل مسؤوليته الحكومة عملاً بمبدأ فصل السلطات. في وقت تبدو الحكومة وفقاً لمصادر مطلعة، «ملزمة بتقديم تبريرات توازي الذرائع والمبادئ القانونية التي إستند إليها قرار الديوان، وإلا نكون أمام سابقة تؤسس لمرحلة جديدة من الإستسابية في الخضوع لقرارات الديوان أو نقضها».

عملياً خلصت جلسة مجلس الوزراء الأخيرة بعد الإستماع لمعطيات صفقة البريد من رئيس ديوان المحاسبة محمد بدران، ورئيس هيئة الشراء العام جان العلية ووزير الإتصالات جوني القرم، إلى تحويل الملف مجدداً لوزير الإتصالات، حتى يضع تقريراً مفصلاً فيه، ويرفعه لجلسة مجلس الوزراء المقبلة من أجل إتخاذ القرار النهائي.

هذا «التكتيك» الذي إختارته الحكومة للتهرب من إتخاذ الموقف، أو اقله تأجيل المواجهة مع أي من الطرفين، وصفه مرجع قانوني بـ»بدعة،لا تعكس دعم مجلس الوزراء لدولة القانون والمؤسسات الرقابية»، إذ أنّ الوزير لا يمكنه أن يكون حكماً في ملف هو خصم فيه بالأساس، أو أقله مشتبهاً بكونه صاحب مصلحة. وهذا بالتالي ما يبقي الصفقة في دائرة تجاذب مرشح للمتابعة حتى جلسة مجلس الوزراء المقبلة، وربما بعدها.

في الأثناء، يتابع وزير الاتصالات حملته المركزة لإحتواء الرأي العام وإقناعه بجدوى الصفقة المنوي ترسيتها على التحالف. وهي حملة وضعتها مصادر مواكبة للملف في إطار «شيطنة» الهيئات الرقابية، ولا سيما هيئة الشراء العام ورئيسها جان العلية. وفيما لم تهدأ بيانات القرم الصحافية بعيد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، رأت المصادر في ذلك «عملاً منظماً يهدف لزرع الشكوك بمصداقية الهيئة التي ارتكز ديوان المحاسبة على ملاحظاتها في إصدار قراره، تمهيداً لكسر هذا القرار، عبر نزع أسسه المبنية على المبادئ القانونية التي تختزلها تلك الملاحظات». وتعرب المصادر بالتالي عن توجسها من محاولات القرم المتكررة لإبعاد النقاش عن السياق القانوني للملف، عبر التداول بما في جعبته من رسائل وأحاديث شخصية، حاول من خلالها وضع رئيس الهيئة في موقع المتهم والمشكوك بمصداقيته، كمقدمة للتشكيك بملاحظاته القانونية.

وهذا ما يعيدنا إلى حجج الوزير للتمسك بترسية العقد على التحالف، وإسترساله بوضع الأمر ضمن ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا. هذا في وقت أصرّ القرم بتصريحات صحافية على معادلة إختصرها «إما بقبول نتائج التلزيم أو خسارة القطاع».

بالمقابل رأت مصادر مطلعة على الملف، أنّ المسار الذي اتخذه دفاع القرم عن الصفقة في مجلس الوزراء، أظهر فعلاً أنّ هذا الملف قادر على تهديد المصلحة الوطنية، وإنما ليس من منطلق المعادلة التي يسوّق لها القرم، بل كنتيجة للإساءة المتعمّدة لسمعة الهيئات الرقابية، ولا سيما هيئة الشراء العام ورئيسها، لربح صفقة البريد. وهذا ما يضع مجلس الوزراء وفقا لمصادر متابعة أمام مسؤوليته في التعاطي مع هذا الملف بموضوعية، وبعيداً عن الذهنيات التي تراهن على إنهاء دور الهيئة وإبعاد سيف رقابتها المصلت على صفقاتها، من دون أن تملك جرأة تَقدم هذه المعركة كما يفعل وزير الإتصالات حالياً.

إلا أنّ المريب في الأمر، أنّ من بات في موقع إتخاذ القرار النهائي تجاه هذا الملف، هو حكومة تصريف أعمال فاقدة لصلاحيتها الكاملة، في قضية لا ترقى إلى مستوى الحالات التي حددها القانون في منح مجلس الوزراء سلطة كسر قرار الهيئات الرقابية.

هذا مع العلم أنّ أي كسر لقرار ديوان المحاسبة وفقاً لمصادر مطلعة يجب أن يكون معللاً بما يوازي مضمونه القانوني من مبررات ومبادئ قانونية، بعيداً عن ما وصفه المصدر بـ»القيل والقال». ويجب أن يكون ذلك بحضور رئيس ديوان المحاسبة، وإلا فإنّ المجلس يكون متجهاً لتسجيل سابقة في تخطي السلطات القانونية الرقابية، على غرار ما حصل مثلاً في قضيتي انفجار مرفأ بيروت وملاحقة حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، حيث شكّلت شيطنة السلطات القضائية مقدمة لنسف هذه الملفات، وإدخالها في حالة رقاد سريري يحرم المواطنين حتى الآن من حقوقهم.

وتتساءل المصادر «عن مصلحة اللبنانيين من هدم المؤسسات الرقابية التي لا تزال تتمتع بثقتهم». بعد أن كانت هذه الثقة قد ولدت نتيجة لما كشفه أداؤها من موضوعية، ساهمت في إعادة بوصلة التلزيمات إلى الأطر القانونية، ومنع، أو أقله عرقلة، الصفقات التي كانت تجرى على طريقة التنفيعات.

وعليه ترى المصادر بأنّ المعركة اليوم، ليست في من سيربح صفقة البريد، إنما هي بين من يتمسك بالأطر الإصلاحية لترسية العقود والصفقات، وبين من يستمر بالنظر إلى مؤسسات الدولة وخدماتها كقالب يستمر النهم لنهش ما تبقى منه. وبالتالي لم يعد السؤال وفقاً للمصادر ما إذا كانت صفقة البريد ستمر بمجلس الوزراء أم لا. بل بات الأهم كيفية إرساء الأسس التي تلزم الإدارة العامة بقرارات السلطات الرقابية المبنية على القواعد القانونية، سواء أكانت شارية أم بائعة للخدمات، علماً أنّ مجلس الوزراء بات بعد كل الجدل الذي أثير، المعني الأول، لا بل الملزم، بإتخاذ القرار النهائي بشأن صفقة تلزيم البريد، مهما حاول إبعاد هذه الكأس عنه. وهو بالتالي يتحمل مسؤولية هذا القرار الذي سيكشف «النيات الفعلية» من عملية الإصلاح.

مصدرنداء الوطن - لوسي بارسخيان
المادة السابقةفرض ضريبة على من حقّق أرباحاً من سداد قروض بأقلّ من قيمها الحقيقية
المقالة القادمةإحتلال غزة في سبيل شق قناة بن غوريون