ليس تفصيلاً أن ينقل عن مسؤولي وزارة الخزانة الاميركية (ومسؤولين غربيين آخرين) تحذيرهم للمسؤولين اللبنانيين، بما فيهم الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة والحاكم بالانابة وسيم منصوري، من استمرار توسع اقتصاد الكاش وضرورة ايجاد طريقة لتطويقه، في حين أن مجموعة العمل المالي الدولية FATF (Financial Action Task Force) «فاتف» أجّلت وضع لبنان على اللائحة الرمادية لأشهر، لاعطائه فرصة (تنتهي الخريف المقبل) لاعادة انتظامه المالي، وتشديد الرقابة على حركة الاموال. فتكرار التحذيرات الدولية المترافقة مع استمرار هذا النهج المالي والاقتصادي المتجاهل للاصلاحات المطلوبة، يعني أننا سائرون نحو تصنيفنا في المنطقة الرمادية من قبل المؤسسات المالية الدولية، أي تحولنا الى دولة تقترب من دولة مافيا وتبييض أموال ألخ… مع امكان خطر الانقطاع عن المؤسسات المالية الدولية.
مسؤولية نيابية لا لبس فيها
من البديهي القول أن تجنب هذا التصنيف ومحاصرة اقتصاد الكاش، يستلزم تشريع قوانين اعادة هيكلة المصارف والانتظام المالي الموجودين في البرلمان اللبناني، بالاضافة الى القوانين الاصلاحية الاخرى. وهذا الامر مؤجل تحت حجة ان البرلمان الحالي هو هيئة انتخابية في ظل عدم وجود رئيس للجمهورية وليس هيئة تشريعية. «أما القول النيابي ان المشكلة عند الحكومة فهو هروب من الحقيقة وتقاعس عن اخذ المبادرة. فلا مكان لادعاء ان لا ارقام نهائية حكومية ومصرفية يبنى عليها. فكما فعل مجلس النواب في 2020 وتصدى لمشكلة الارقام وزعم انه الاقدر على حسم الخلافات حولها، يمكنه اليوم فعل ذلك في ورشة عمل مفتوحة يومياً لانجاز قانون هيكلة المصارف وتوزيع الخسائر. وما رمي الكرة عند الحكومة الا مساهمة مباشرة في فظاعتها من المجلس النيابي في جريمة التوسع الخطر جداً باقتصاد الكاش على نحو يهدد ما تبقى من سمعة لبنان المالية، لا بل تهديد الكيان برمته ربما، وفق اجماع مصادر مالية محلية وأجنبية ذلت صلة بحوكمة القطاع المالي.
صرخة المنصوري… من يسمعها؟
وهذا ما تحدث عنه صراحة منصوري في مؤتمره الصحافي الثاني يوم الجمعة الماضي، حين أشار الى أن «الانتظام المالي للدولة لن يتحقق من دون إقرار القوانين الإصلاحية، وتحديداً قانون Capital Control وقانون إعادة التوازن المالي وقانون إعادة هيكلة المصارف»، لافتاً الى أنه «بعد نحو أربع سنوات من اندلاع الازمة، فشل لبنان في إقرار قوانين تشكل المخرج الوحيد له من الأزمة المالية غير المسبوقة التي يعيشها»، وكرر أن «كل يوم نخسره من دون صدور هذه القوانين يؤدي الى ازدياد الخسارة واضمحلال فرص الحل، وتفاقم معاناة المودعين في انتظار إيجاد حل لاسترداد ودائعهم، ويصعب معها إعادة إحياء الدورة الإقتصادية السليمة وإطلاق مسار التعافي».
الثقة معدومة بالمصارف
تجدر الاشارة الى ان توسع اقتصاد الكاش في لبنان، سببه الأول سقوط النظام المصرفي كوسيط مالي موثوق. فالثقة بالبنوك اللبنانية أصبحت معدومة، وهناك تعاملات كثيرة باتت خارج البنوك التي فقدت وظيفتها الأساسية المتمثلة في الإيداع والإقراض، وتحولت العمليات النقدية بمعظمها إلى السوق السوداء أو السوق الرمادية أي شركات تحويل الأموال وشركات الصيرفة، ثم السوق الموازية التي تضم آلاف الصرافين (غير الشرعيين) في المناطق، وهناك تقديرات تشير إلى أن أكثر من 60 إلى 70 في المئة من العمليات أصبحت نقدية، كما أدى تعدد أسعار الصرف وهو الخطيئة التي ارتكبها مصرف لبنان في عهد سلامة، إلى تشوه في التعاملات وفقاً لمتطلبات صندوق النقد الدولي.
من المفيد الاشارة ايضاً الى ان مصرف لبنان بعد تزايد التحذيرات لتنامي اقتصاد الكاش وتسببه في خطر تصنيف لبنان في المنطقة الرمادية، اصدر التعميم 165، الذي يجيز التحويلات وإصدار الشيكات عبر مقاصّة داخلية في مصرف لبنان، بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي «الفريش». وبدأ العمل فيه في حزيران الماضي كخطوة أولى في طريق استرداد مصرف لبنان للمبادرة، وكذلك لإعادة الثقة قليلاً بالقطاع المصرفي، وتحاشي إدراج لبنان على اللائحة الرمادية من قبل «فاتف». لكن بعد مرور اشهر لم ينجح التعميم في احداث فرق كبير في تطويق التوسع المستمر لاقتصاد الكاش، ما يعني أن الامر يحتاج الى استعمال مبضع التشريعات الجوهرية في مجلس النواب، والمصرف المركزي يحدد بوضوح وصرامة خريطة الطريق للخروج التدريجي من اقتصاد الكاش، وليس مجرد لمسات تجميلية عبر تعاميم تلامس المشكلة بشكل سطحي، او تطرح حلولاً ترقيعية قد تثير الريبة أكثر.
خريطة الطريق المطلوبة
«نداء الوطن» حاولت رسم هذه الخريطة مع أصحاب الشأن في المصارف وقطاع المال، على اعتبار أن «أهل مكة أدرى بشعابها»، فكان التشديد على أن الامر يحتاج الى عملية جراحية مؤلمة ولكن ضرورية كي لا يختفي لبنان عن خريطة اسواق المال العالمية. وهذا ما يؤكد عليه وزير الاقتصاد السابق ومدير عام بنك سيدروس انفست رائد خوري لـ»نداء الوطن» فيقول: «من البديهي القول انه يجب اعادة الثقة بالقطاع المصرفي للحد من استعمال الكاش، وهذا الامر لا يتحقق الا من خلال تنفيذ عدة خطوات، أولها اقرار القوانين الاصلاحية المطلوبة من صندوق النقد الدولي، وثانيها تشريع قوانين اخرى لمواكبة الازمة مثل قوانين تفصل بين الفريش دولار والودائع التي كانت موجودة قبل الازمة، حتى تتمكن المصارف من تلقي الكاش واعطاء قروض للمودعين»، لافتاً الى أن «هذا الامر لا يمكن القيام به حالياً في حسابات «الفريش» التي أجيز فتحها وفقاً للتعميم 165، لأن القانون لا يحميهم ويمكن تسديد الديون وفقاً للسعر الرسمي للدولار أو بالشيك المصرفي، وهذه معضلة يجب حلها».
لا نتيجة بعد من التعميم 165
يؤكد خوري على أن «توسع اقتصاد الكاش خطر ويضع لبنان في موقع صعب لجهة عدم الامتثال للقوانين الدولية للمخاطر. ولذلك يجب الحد منه لكي يتراجع اعتماد الناس عليه، أما التعميم 165 فلم نر منه نتيجة ايجابية ولا اتوقع ذلك قبل ان يحصل حل شامل لكل القطاع المصرفي واعادة الانتظام المالي»، معتبراً أنه «كي تستعيد الناس التحويلات المالية عبر المصارف، يجب أن يكون لديها ثقة أنه لن تحصل مشكلة أخرى كالتي عاشوها بعد انتفاضة 2019، ولذلك يجب حل المشكلة من جذورها عبر الخطوات التي ذكرتها سابقاً، والتعميم 165 لن يساهم في حل المشكلة الا بنسبة 10 بالمئة على الاكثر، أما الأساس فهو اقرار القوانين والتشريعات».
يشدد خوري على أن «المشكلة الاساسية هي سياسية، بمعنى ان لا تشريع في مجلس النواب بسبب عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية، علماً ان الاولوية حالياً هي تشريع القوانين المطلوبة، وبالتالي الحل يبدو انه يبدأ بالتسوية في البلد وانتخاب رئيس حتى يصار الى استعادة مجلس النواب لدوره التشريعي، وتتألف حكومة وينتظم العمل في المؤسسات الدستورية في البلد».
ويختم: «في تقريرها الاخير منحت «فاتف» لبنان 6 أشهر سماح قبل تصنيفنا في المنطقة الرمادية، وهذا ما فعلته وزارة الخزانة الاميركية ولكن يجب علينا مقابلة هذه الخطوة بايجابية وتنفيذ الاصلاحات، والا لن يمشي الحال».
إستعادة دور المصارف
يشرح وزير الاقتصاد السابق وعضو مجلس ادارة بنك البحر المتوسط الدكتور غازي يوسف لـ»نداء الوطن» أنه «يجب حث المواطنين على اعادة استعمال المعاملات المصرفية في عملياتهم المالية، لكن لا يمكن الحد من استعمال الكاش الا من خلال حسابات موثقة في المصارف تستعمل الادوات المالية (الشيكات والبطاقات الائتمانية) وعندها يمكن ملاحقة مصادر الاموال»، لافتاً الى أنه «الى الآن لم تصدر في لبنان قوانين جديدة تدفع بالمودع ليكوّن ثقة بايداع أمواله في المصرف. ولذلك، فان اعادة هيكلة المصارف خطوة ضرورية واولى في هذا الاطار، ثم بعدها يمكن للناس ان يكون لديها قابلية اكثر في استعمال الكاش الذي تملكه في عملياتها المصرفية، وان يعود المصرف وسيطاً بين صاحب الاموال والاطراف الاخرى لاتمام العمليات التجارية والمالية، لكن الآن الدورة غير مكتملة».
يضيف: «استعادة هذا الدور هو من مسؤولية المصارف والقوانين التي ترعى عمل المصارف، أي قانون النقد والتسليف والقوانين الصادرة عن وزارة المالية في كيفية استعمال الكاش والى الآن هذه القوانين غير واضحة. علماً أن وضع هذه القوانين يؤمن خروجاً تدريجياً من اقتصاد الكاش لأنه من الضروري جداً الخروج منه»، مشدداً على أنه «الى الآن لم تحصل اي خطوة جدية ولا تشريع لقوانين ترعى عمل المصارف في المرحلة المقبلة، وهذا الامر يتوقف على توجه التعامل مع ملف الودائع وعدم قدرة المودعين في الحصول على اموالهم وهذه مشكلة».
ويختم: «وزارة الخزانة الاميركية سيكون لها ردة فعل تجاه لبنان ككل، وسيتم وضعه على اللائحة الرمادية التي تحظّر (او تحذر من) تعامل المؤسسات المصرفية العالمية مع اي مصرف لبناني، وهذا ما يؤدي الى شل كل البلد».
الكاش أوكسجين في غياب المعالجات!
على ضفة اصحاب المصارف أيضاً، هناك رأي آخر مفاده أنه «لا يمكن اجبار اي لبناني على وضع امواله بالمصرف أو التداول بالدولار عبر المصارف، بل الجميع يعتبر أن «مخزنه عبّه» وهذا الكلام نردده منذ 4 سنوات أي منذ اندلاع الازمة. لكن لا خطوات جديدة في هذا الموضوع. اما التعميم 165 الذي قيل انه للحد من الاقتصاد النقدي فهو كلام فارغ، لأنه لا يمكن لاي مواطن أن يضع أموال «فريش» في المصارف اكثر من حاجته لتسيير أعماله»، مشدداً على «ضرورة أن لا نجن، لأننا نعرف تماماً أن عدداً كبيراً من اللبنانيين ينقلون أموالهم من الخارج الى لبنان بالكاش من دون ان يكون القصد هو تبييض الاموال، وقد نشطت هذه العمليات بعد الازمة وخصوصاً من قبل المغتربين، ولا سيما من دول أفريقيا وهذه الاموال تساهم في انعاش هذا البلد».
يوضح المصدر أن «هذه الطريقة تعتبرها «فاتف» ووزارة الخزانة الاميركية تبييض اموال، ولكن علينا أن نعرف أنه اذا كان مصدرها صحيحاً في بلدان المنشأ لا يمكن الاستغناء عنها في المرحلة الحالية، لأن فرض قيود كبيرة على هذه الاموال من دون تصحيح القطاع المصرفي، يعني أننا نجهز على أنفاس البلد ونخنقه. واذا كنا خائفين من اقتصاد الكاش علينا خلق قطاع مصرفي صحيح، وليس أن نقوم بضرب الاوكسجين الذي لدينا من دون القيام بأي خطوة اصلاحية». ويضيف: «إن الاقتصاد النقدي لا يمكن ان يتحول الى غير نقدي الا من خلال القطاع المصرفي، ولا يمكن القول للناس ضعوا أموالكم في القطاع المصرفي، الا من خلال وضع تشريعات جديدة للقطاع المصرفي يحظى بثقة المودعين».
يختم: «نحن لا نقول أن هناك افتراءات من قبل «الفاتف» ووزارة الخزانة الاميركية في ما يتعلق باقتصاد الكاش، بل هناك تشريعات يجب أن نقوم بها كي يتحول الاقتصاد النقدي الى اقتصاد غير نقدي وهذا ما لا نقوم به، لذلك لا يمكن أن نحارب الاقتصاد النقدي بطريقة بوليسية، ولا نريد تغيير النظام المالي في لبنان والتقصير الحاصل هو التشريع وعدم تصحيح القطاع المصرفي».