ليس مشهدًا عاديًا أن ترى عشرات أنابيب الصرف الصحي، تخترق الجدار عند ضفتي نهر “أبو علي” في طرابلس، لتلفظ في مياهه على مدار الساعة، كل ما تحمله من مياه مبتذلة وبقايا نفايات ودماء وجلود حيوانية.
نهر قاديشا، المعروف بـ “نهر أبو علي”، كان قبل نكسة الفيضان في الخمسينات، مصدرًا حيويًا وغنيًا لمياه الشفة ومساحة طبيعية للسباحة والاستجمام.
الغرابة هنا، لا تقتصر على الجريمة المتواصلة منذ عقود، بحق واحد من أهم أنهر لبنان، الذي ينبع من مغارة قاديشا عند سفوح القرنة السوداء، ويمتد على نحو 45 كيلومتر، مخترقًا طرابلس نحو مصبه في البحر. بل إن الجريمة والفساد يبدوان مضاعفين، لأن مشهد تدفق مياه الصرف الصحي نحو النهر، هو على بعد كيلومترات فقط من محطة تكرير المياه المبتذلة في طرابلس (wastewater treatment facility)، وهي أكبر وأضخم محطة في لبنان، وواحدة من أكبر محطات التكرير ومن الأكثر تطورًا في منطقة حوض البحر المتوسط.
لكن حال طرابلس لا يختلف عن واقع نهرها. فبعد نحو 15 عامًا من استكمال مشروع بناء محطة التكرير الذي يعود إلى التسعينات، ما زالت طرابلس محرومة مع جوارها من عمل المحطة بكامل طاقتها وتقنياتها. وأهلها محرومون أيضًا، من فرصة ذهبية لوضعها بمصاف المدن المتقدمة عالميًا بعمليات تكرير مياه الصرف الصحي وإنتاج الكهرباء منها.
هذه المحطة شبه معطلة، رغم تكلفتها التي ناهزت 100 مليون دولار. وكان مفترضًا أن يستفيد منها نحو مليون مكلف بالمدينة وجوارها. كما تحوم شبهات الفساد وتغيب الرقابة عن عمليات التلزيم بمشاريع تشغيلها وإمداداتها. كيف؟ إجابات عديدة في تحقيق “المدن”.
بداية الجولة
لم يكن دخولنا إلى محطة تكرير طرابلس مسألة يسيرة. بل تطلبت إذنًا رسميًا من مجلس الإنماء والإعمار، استغرق الحصول عليه عدة أسابيع. وهناك، استقبلنا فريق المهندسين التابعين لشركة Veolia الفرنسية، المسؤولة حاليًا عن تشغيل محطة تكرير طرابلس.
كان لافتًا رفض فريق الشركة الإجابة عن أي سؤال، ولو تقني. واستقبلنا بالقول: “نرجو عدم التقاط أي صور يظهر فيها فريقنا، كما نرجو عدم طرح أي سؤال علينا، لأننا لن نتمكن من الإجابة بناء على توجيه شركتنا. أي سؤال لديكم نرجو توجيهه حصرًا لمجلس الإنماء والإعمار. نحن سنرافقكم فقط بجولتكم داخل المحطة”.
من Suez إلى Veolia؟
رسميًا، العقد الذي وقعه مجلس الإنماء والإعمار ليس مع Veolia، بل مع شركة Butec التابعة لمجموعة Suez الفرنسية أيضًا (يمكن مراجعته). ويعود تاريخ توقيع العقد إلى 21 أيار 2008، ونص على تاريخ الانتهاء في 31 كانون الأول 2009، وهو ما لم يحصل رغم مرور 15 عامًا. وهو ينص على “إنشاء المصب البحري العائد لمحطة تكرير المياه المبتذلة في طرابلس”، وذلك بقية نحو 4.5 مليون دولار، بتمويل من البنك الأوروبي للتثمير. وكان مفترضًا أن يؤدي إلى إنشاء خط مصب بحري لتصريف المياه المكررة إلى البحر من محطة تكرير المياه المبتذلة في طرابلس، والتي تخدم مليون نسمة بقدرة معالجة 135 ألف متر مكعب. لكن المحطة اليوم، بالكاد تستقبل 45 ألف متر مكعب من المياه المبتذلة، وهو معدل لا يشكل حتى الحد الأدنى لتشغيلها بشكل متقدم. ويعود العقد الأساسي لمجلس الإنماء مع مجموعة Suez، إلى 2003، وينص على إنشاء محطة معالجة المياه المبتذلة في طرابلس.
واللافت، أن عقد مجلس الإنماء والإعمار، ما زال مع شركة Suez، علمًا أن أفراد الشركة الموجودة في محطة التكرير يتبعون لشركة Veolia، ويرتدون زيها الرسمي، بسبب عملية الدمج بينهما.
وبالعودة إلى قصة الشركتين الفرنسيتين، ويجمعهما تاريخ طويل من المنافسة الشرسة والخصومة، فإن Veolia تمكنت في العام 2021، من شراء نسبة كبيرة من شركة Suez الأصغر حجمًا منها، بصفقة اندماج بلغت نحو 13 مليار يورو (15.44 مليار دولار) بعد أشهر مريرة من السجال بينهما حول إدارة قطاع النفايات والمياه.
وتعد Veolia، التي استحوذت على نحو 86% من أسهم Suez، واحدة من أضخم الشركات الفرنسية الأوروبية بمجال إدارة النفايات والمياه والصرف الصحي. وفي العام 2023، خدمت Veolia حول العالم نحو 113 مليون شخص بمياه الشرب و103 ملايين شخص بخدمات الصرف الصحي، وأنتجت 42 تيراواط ساعة من الطاقة واستردت 63 مليون طن متري من النفايات.
لكن هذه الشركة التي لديها مشاريع عديدة في لبنان، ما زالت عاجزة عن استكمال مشروع شركة Suez في محطة تكرير طرابلس.
والمعضلة هنا، أن مجلس الإنماء والإعمار أبقى على نسخة العقد الموقع مع Suez، بحجة أن مفعوله سارٍ وبأن عملية الدمج الحاصلة تعني الشركتين فحسب.
في حين، يفيد مصدر قانوني مطلع، بأنه عند دمج شركة أجنبية لديها عقود ومكتب في لبنان، بشركة أجنبية أخرى، وانتقلت المشاريع إليها تلقائيًا، يجب تبليغ وزارة الاقتصاد، وإصدار إذاعة تجارية بالاسم المعدل، على أن ترفق التعديلات القانونية بالعقد الأصلي الموقع بين مجلس الإنماء والإعمار والشركة المعنية، لضمان حقوق لبنان بتنفيذ المشروع.
وعليه، لم يوضح مجلس الإنماء والإعمار، بإعلان رسمي، ما إذا كان عقد مشروع محطة تكرير طرابلس، انتقل تلقائيًا إلى Veolia بعد دمج معظم أسهم Suez معها، طالما أن الأولى هي من تعمل حاليًا في المحطة، رغم أن العقد موقعًا باسم الثانية.
ولدى سؤاله عن العقد الموقع مع مجموعة Suez في محطة تكرير طرابلس، يجيبنا مجلس الإنماء والإعمار بكتاب رسمي: “إن المهام التي كلفت بها شركة SUEZ بموجب العقد الموقع بينها وبين مجلس الانماء، تقضي بإعداد التصاميم التفصيلية للمحطة وتنفيذ الاشغال وتجربتها وصيانتها وتشغيلها لمدة ثلاث سنوات. وشروط العقد تتبع نموذج الـ FIDIC المعتمد عالمياً لمشاريع مماثلة والذي تطلب مؤسسات التمويل العالمية استعماله”.
وحول تأخر الشركة عن استلام كامل المحطة يقول المجلس: “لم تستلم المحطة حتى تاريخه لأن الشركة لم تتمكن من إجراء تجارب كافة المنشآت المنفذة، كما ينص عليه العقد، وتابعت عمليات الصيانة والتشغيل لمنشآت التكرير التمهيدي إضافة إلى الصيانة الوقائية للمنشآت الأخرى”.
في قلب المحطة
في حرم المحطة الواقعة بمنطقة المحجر الصحي، وهي تطل على جبلي نفايات طرابلس، ونشأت على حافة البحر بعد ردمه، وجدنا أنفسنا داخل مساحة هائلة تضم منشآت ضخمة على امتداد مئات الأمتار. وعند بوابة المبنى الإداري، عُلقت لوحة تحمل الأرزة وممهورة بالعبارة التالية:
“برعاية دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ فؤاد السنيورة جرى تدشين محطة الصرف الصحي في طرابلس – 1 نيسان 2009”.
ربما كان يدرك السنيورة يومها، بأن تدشين المحطة، لا يتعدى رمزية 1 نيسان، فبقيت حتى اليوم وعدًا كاذبًا لم يتحقق.
تجولنا بين تسع منشآت ضخمة ومكشوفة ومجهزة بأكثر التقنيات تقدمًا، التي جعلتها أهم محطة من بين 67 محطة تكرير ورفع في لبنان، وبأعلى وأهم قدرة استيعابية. لكنها معطلة، يتآكلها الصدأ. أما المنشآت التي تضمها فهي الآتية:
– محطة الرفع الأساسية
– منشآت استقبال مياه الصهاريج
– منشأة المعالجة التمهيدية
– منشأة المعالجة الأولية
– منشأة المعالجة الثانوية
– منشأة معالجة البقايا والوحول الناتجة عن عملية التكرير
– المصب البحري
– مشغل صيانة التجهيزات
– مبنى إداري
وجميعها، منشآت لا تعمل، باستثناء المعالجة التمهيدية، التي تعالج الدهون والرمال والشوائب الصغيرة، أي إنها عملية تنقية الصرف الصحي من المواد الصلبة فحسب.
في إجابته على أسئلتنا بكتاب رسمي، أفادنا مجلس الإنماء والإعمار بأن محطة تكرير المياه المبتذلة، وضعت في الخدمة منذ 2014 وتعمل حالياً بمرحلة التكرير التمهيدي وتصرف المياه في المصب البحري، الذي يبلغ طوله حوالى 1600 متر، كما تستقبل المحطة حوالى 300 صهريج شهرياً يتم تفريغ حمولتها في منشأة مخصصة لهذه الغاية.
هذه المحطة، بحسب مجلس الإنماء والإعمار، مصممة لتخدم مدينة طرابلس وعدة مناطق مجاورة، منها الميناء والمنطقة الممتدة شمالاً حتى نهر البارد، ومنطقتي القلمون والكورة. وبالتالي فإن إيصال المياه المبتذلة المنزلية إليها يتطلب تنفيذ مئات الكيلومترات من الشبكات الجديدة، إضافة إلى تجميع المياه المبتذلة الناتجة عن الشبكات الموجودة والمنفذة من قبل البلديات وغيرها من المؤسسات العامة.
وعقب إنشائها، كلف الحكومة اللبنانية، مجلس الانماء والاعمار، تنفيذ محطة التكرير والمصب البحري والنفق الرئيسي، الذي يؤمن تجميع المياه المبتذلة وايصالها إلى محطة التكرير. وذلك بتمويل من البنك الاوروبي للتثمير. لكن ذلك، بحسب المجلس، لم يترافق مع متابعة وبخطة واضحة لاستكمال المشروع ووضعه في الخدمة وصيانته وتشغيله واستيفاء رسم للصرف الصحي، لتأمين إدارة المشروع، من قبل الادارات المسؤولة عن هذا القطاع، عملًا بقانون تنظيم قطاع المياه (رقم 221/2000 تاريخ 26/5/2000، المصحح بالقانون رقم 241/2000 تاريخ 7/8/2000 والمعدل بالقانون 377 تاريخ 14/12/2001)
وفق المراسيم أدناه:
ولمعالجة هذا الواقع، من وجهة نظر مجلس الإنماء والإعمار، بادر الأخير لاقتراح تأمين التمويل اللازم لاستكمال شبكات المياه المبتذلة المؤدية إلى محطة طرابلس، وتم نتيجة تنفيذ المشاريع التالية:
شبكات مياه مبتذلة داخلية في قسم من مدينة طرابلس
خط الجر الرئيسي من منطقة نهر البارد لغاية طرابلس
شبكات الصرف الصحي في البداوي وفي التبانة
تنفيذ شبكات الصرف الصحي في منطقة الكورة
ويتم حالياً وصل شبكات الكورة إلى محطة التكرير
ويتم تنفيذ شبكات ومحطات ضخ منطقة القلمون ووصلها أيضًا إلى محطة التكرير.
ويفيد المجلس، بأنه حصل على تمويل بقيمة نحو 88 مليون يورو من البنك الأوروبي للتثمير، لاستكمال تنفيذ كافة الشبكات المؤدية إلى محطة التكرير، “إلا أن البنك ألغى مؤخرًا هذا التمويل بسبب الوضع الاقتصادي في لبنان”. من دون أن يوضح المجلس رسميًا، الأسباب الفعلية لهذا الإلغاء.
ويقول المجلس: “عند الانتهاء من تنفيذ مشروعي الكورة والقلمون، يكون مجلس الانماء والإعمار قد نفذ المشروعين المكلف بتنفيذهما من قبل مجلس الوزراء، وبالتالي فإنه على الادارات والمؤسسات المسؤولة قانوناً عن قطاع الصرف الصحي، تأمين الاعتمادات اللازمة لاستكمال كافة الشبكات المؤدية الى محطة طرابلس أو تكليف مجلس الانماء والاعمار، إنجاز المهام المناطة قانونًا بهذه الادارات والمؤسسات وتأمين التمويل واستكمال الاشغال”.
مُقاول مُعاقب أميركيًا؟
حاليًا، يتم العمل على وصلتي منطقة الكورة ومنطقة القلمون إلى محطة تكرير طرابلس. وبحسب ما أفادنا مجلس الإنماء والإعمار، فإن تمويل وصلة منطقة الكورة مؤمن من الاتحاد الأوروبي، في حين أن تمويل الشبكات الداخلية ومحطات الضخ ووصلة القلمون هو من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. أما الشركات الملتزمة للأشغال، بحسب ما يقر المجلس أيضًا فهي شركة خوري للمقاولات بالنسبة لوصلة الكورة، ومؤسسة سابا مخلوف بالنسبة لمشروع القلمون. و”أبرز وبنود التعاقد معها تقضي بتنفيذ المنشآت وتجربتها ووضعها في الخدمة وضمان حسن تنفيذها لمدة سنة بعد وضعها في الخدمة”.
خوري- الكورة
تمر وصلة الكورة من وادي هاب الذي يغرق بملوثات الصرف الصحي، وشقت طريقها، حتى الآن، من اوتوستراد الميناء الدولية – الجهة الخلفية لسبينيس. لكن اللافت وما يناقض مبدأ الشفافية العامة، هو عدم وضع يافطة رسمية أمام الأشغال بهذه المنطقة، للتعريف بالجهة المقاولة أو المتعهدة وللتعريف بالمشروع. فبعد إنهاء شركة إيطالية لعقد عملها، وقع مجلس الإنماء والإعمار مع شركة “خوري للمقاولات”، التي يملكها داني خوري، في 29 حزيران 2018، عقدًا لبناء ناقلات مياه الصرف الصحي في منطقة الكورة والقلمون، وربطها بمحطة معالجة مياه الصرف الصحي الموجودة في طرابلس، على أن تعالج مياه الصرف الصحي لنحو 300 ألف شخص، وعلى أن تحمل نحو 39 ألف متر مكعب يوميًا من مياه الصرف الصحي إلى محطة طرابلس التي تتسع إلى 135 ألف متر مكعب يوميا. (العقد). وبلغت قيمة العقد نحو 9 مليون دولار، وكان ينص على الانتهاء من المشروع في 31 أيار 2024، وهو ما لم يحصل.
المعضلة هنا، أن داني خوري أدرج على قائمة العقوبات الأميركية، في كانون الأول 2021، وقد أعلنت يومها الخزانة الأميركية عن اسمه، (مرفق نص الإعلان)، إلى جانب كل من المقاول جهاد العرب وجميل السيد، وقالت إن كل منهم استفاد من الفساد والمحسوبية وساهم بانهيار سيادة القانون في لبنان.
قد يعتبر كثيرون أن العقوبات الأميركية في لبنان منحازة سياسيًا بأساسها، ولا يمكن الارتكاز عليها للحكم على المُعاقبين. لكن خوري مثلًا، هو واحد من كبار المقاولين الأثرياء ورجال الأعمال في لبنان، الذين تلزموا بمشاريع، إما فشلت وإما أخلوا بعقودها وإما لم تنته بمهلها المحددة، وحصلوا غالبًا على هذه العقود بالمحاباة والتراضي. وبحسب ما ذكرته حينها الخزانة الأميركية، فإن خوري هو “شريك تجاري مقرب من جبران باسيل..، حصل خوري على عقود عامة كبيرة حصدت له ملايين الدولارات بينما فشل في الوفاء بشروط تلك العقود بشكل مجدي. وفي عام 2016، حصل خوري على عقد بقيمة 142 مليون دولار من مجلس الإنماء والإعمار لتشغيل مطمر برج حمود. وقد اتُهم خوري وشركته بإلقاء النفايات السامة والنفايات في البحر الأبيض المتوسط، وتسميم مصايد الأسماك، وتلويث شواطئ لبنان”.
توقف عمل الخوري بمنطقة الكورة بعد فرض العقوبات الأميركية عليه، بحسب مصادر مطلعة، لعام واحد، ثم استأنف عمله المعتاد، بعد شباط 2022، بعد تسوية وضعه مع البنك الأوروبي للاستثمار. لكن السؤال يبقى حول أسباب إبرام مجلس الإنماء والإعمار لعقود مع مقاولين وشركات تحوم حولها شبهات فساد ومعاقبين دوليًا، خصوصًا من لديهم ارتباطات سياسية، وينالون الحصة الأكبر من العقود الضخمة التي يتم تمويلها من القروض الأجنبية.
القلمون: تقاعس “مخلوف”
أما شركة “سابا مخلوف للتجارة والمقاولة”، التي أسسها سابا مخلوف جبرائيل سنة 1982 -مسجلة في بعبدا- فراكمت خلال ست سنوات، وبإقرار من الشركة نفسها، أرباحًا بأكثر من 12 مليون دولار، علمًا أن عددًا كبيرًا من مشاريعها تضع لها أسعار خيالية، وبعضها لا ينتهي بموعده وفقًا للعقود، وتجربة القلمون أكبر مثال.
في 29 حزيران 2018، وقعت شركة مخلوف عقدًا مع مجلس الإنماء والإعمار، بقيمة نحو 12 مليون دولار، بتمويل من الصندوق العربية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكان الهدف منه بناء أنابيب توزيع المياه، وتنفيذ شبكات الصرف الصحي بين القلمون وطرابلس. (ملخص العقد)
وكان تاريخ الانتهاء، وفقًا للعقد، في 5 حزيران 2024، لكن ذلك لم يحصل طبعًا، وما زال العمل يسير بمراحل بطيئة للغاية.
وبحسب ما يجيبنا مجلس الإنماء والإعمار في كتابه، فإن محطة التكرير يمكن وضعها في الخدمة بمراحلها الثلاث عند الانتهاء من تنفيذ وصلات الكورة والقلمون. وخلافًا للمهل المنصوصة في العقدين، يقرّ المجلس: “من المتوقع الانتهاء من تنفيذ وصلة الكورة خلال فترة 6 أشهر. أما وصلة القلمون فمن المتوقع ان تنتهي خلال 18 شهر”.
المحطة: المسار الزمني للبناء والتمويل
تختصر محطة تكرير طرابلس، قصة حلم بالنمو بيئيًا واقتصاديًا وإنمائيًا، لكنه لم يكتمل بفعل سوء الإدارة والشراكات وشبهات الفساد في تنفيذ مشارعيها. وهنا أبرز محطات التمويل والعمل:
– في 1997: حصل لبنان بعد الحرب الأهلية، على موافقة لبناء محطة تكرير طرابلس، بتمويل من البنك الأوروبي للاستثمار، بلغ نحو 100 مليون يورو، وتم توقيعه في 10 أيلول 1997. (نص العقد). وقال البنك الأوروبي حينها، حول هدف القرض، بأنه “لتمويل بناء محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي، وإعادة تأهيل وتوسيع شبكة الصرف الصحي وإنشاء شبكة لتصريف مياه الأمطار لمنطقة طرابلس الكبرى، ثاني أكبر منطقة حضرية في لبنان. ومن المتوقع أن يحقق المشروع، فوائد اقتصادية وبيئية واجتماعية، حيث أنه سيقلل بشكل كبير من المخاطر الصحية والتلوث في البحر الأبيض المتوسط، ويحمي موارد المياه الجوفية”
في 2002: وقع مجلس الإنماء والإعمار مع مجموعة Suez، عقدًا لإنشاء محطة معالجة المياه المبتذلة في طرابلس (بقيمة القرض أعلاه من 1997)، لتخدم مليون مكافئ بسعة معالجة تبلغ 135 ألف متر مكعب في اليوم. (العقد)
-بدأت عملية البناء في 2003 وانتهت في 2009
2014: دخلت المحطة حيز التنفيذ بالمرحلة التمهيدية.
2018: حصلت محطة التكرير على قرض إضافي من البنك الأوروبي للاستثمار، بقيمة نحو 92 مليون يورو، لإنشاء شبكات الصرف الصحي في طرابلس وتوصيلها إلى محطة معالجة مياه الصرف الصحي القائمة (العقد). ثم ألغي القرض بعد الأزمة الاقتصادية في خريف 2019.
آمالٌ ومسؤوليات ضائعة
عمليًا، لم تؤد محطة التكرير في طرابلس أهدافها الكبرى: فهي لم تحد من التلوث البيئي ولم تحم نهر أبو علي وتاليًا البحر المتوسط من تدفق ملوثات المجاري والصرف الصحي. كما لم تؤمن معالجة فعالة للصرف الصحي، علمًا أنها مؤهلة للمعالجة الثلاثية ولتوليد جزء كبير من الطاقة الكهربائية الذاتية لتشغيلها. كذلك لم تكتمل التوصيلات إليها، للعمل بكامل سعتها وطاقتها، التي تعد شرطًا أساسيًا لتشغيلها.
المشكلة أيضًا، أن ثمة التباسًا قانونيًا حول الجهة المسؤولة عن قطاع الصرف الصحي، الذي كان في عهدة البلديات، ثم جرى ضمه إلى المؤسسات العامة للمياه. ومن المفترض أن تنتقل إدارة محطة تكرير طرابلس إلى مؤسسة مياه لبنان الشمالي، بعد اكتمال كامل توصيلاتها.
وفي حديث خاص مع مدير عام مؤسسة مياه لبنان الشمالي، خالد عبيد، يعود إلى ما قبل التسعينات، حين كانت كل بلدة أو قرية في لبنان، تشق مجرورها الخاص للصرف الصحي، ويصب في الوادي، وتاليًا يصل إما إلى البحر أو إلى النهر. يقول: “مياهنا الجوفية بحالة يرثى لها، وفيها نسبة تلوث هائلة، لأنها تمتص تاريخيًا كل مياه الصرف الصحي”.
حتى التسعينات، كانت البلديات هي من تدير قطاع الصرف الصحي، ثم بدأ التفكير في لبنان، وتحديدًا بعد الحرب الأهلية، وبسبب ارتفاع عدد السكان والبناء العمراني، بكيفية معالجة الصرف الصحي، فكان التوجه الأولي لإنشاء مشروع خاص لكل منطقة وقرية، ثم ذهب التفكير لإنشاء محطات تكرير كحال أوروبا. بحسب خالد عبيد، والذي يفيد بأن ما حصل هو إنشاء عشرات محطات التكرير الصغيرة في لبنان، لكنها باءت بالفشل. ثم راح التفكير لبناء محطات تكرير كبيرة، عبر مجلس الإنماء والإعمار، وعلى هذا الأساس تم اقتراح مشروع محطة تكرير طرابلس، ويقول: “تبين لاحقا أن البلديات غير قادرة وحدها على إدارة المحطات، وتحت عنوان الإدارة المتكاملة لقطاع المياه، بدأ تلزيم محطات التكرير لمؤسسات المياه في بيروت وجبل لبنان والشمال والبقاع والجنوب، التي لم يكن الصرف الصحي من ضمن مهامها. وبعد العام 2000، صدر قانون من البرلمان على هذا الأساس، وحرص على الاحتفاظ بحقوق وصلاحيات البلديات، فتنامى الالتباس بينها وبين مؤسسات المياه حول إدارة قطاع الصرف الصحي”.
وعن محطة تكرير طرابلس، يقول عبيد: “استلامنا لإدارتها يحتاج إلى ميزانية كبيرة، لا تقل عن مليون دولار، وإلى توظيف عدد كبير من العمال، وإلى آلية جباية مفصلة”.
تاريخيًا، شهدت طرابلس سجالًا كبيرًا مع تعالي أصوات ترفض بناء محطة التكرير فيها، وحتى لا تتحول المدينة إلى “مكب للصرف الصحي” لمختلف المناطق والأقضية الواقعة في حوض طرابلس.
وهنا، يقول عبيد: “إن واقع طرابلس الجغرافي هو ما فرض ذلك، لأن مياه الصرف الصحي تصلها تلقائيًا بالجاذبية، بينما احتاجت بعض المناطق إلى محطات رفع (ضخ مياه الصرف إلى محطة التكرير). ففي البداوي مثلًا، قمنا بتشغيل ثلاث محطات رفع، وفي القلمون محطتين”. ويقول المدير العام، بأن عمل محطة تكرير طرابلس بكامل طاقتها، يحتاج إلى تشغيل توصيلات الخطوط التالية: خط المنية – البداوي (مفعل)، خط الضنية، خط الكورة، خط زغرتا وخط القلمون.
بحر ملوث
على مستوى آخر، يعتبر جلال حلواني، وهو مدير مختبر علوم البيئة والمياه في الجامعة اللبنانية، بأن ثمة إرادة مفقودة وغائبة في تشغيل وإدارة أهم وأضخم محطة تكرير في لبنان. ويخبرنا أن هذه المحطة قادرة ومجهزة للمعالجة الثلاثية، لا سيما معالجة الحمأة (البراز).
قبل عام تسعين، وفق حلواني، كان هناك شبكة واحدة بطرابلس لنفس الأقنية، تدمج مياه الأمطار بالمياه المبتذلة. أما بعد التسعين تم فصل الشبكتين، وبدأ بناء المحطة لاحقًا، خصوصًا أن مياه الأمطار لا تحوي ملوثات جرثومية كبيرة، ولا تحتاج لمعالجة مثل الصرف الصحي، للتخلص من الجراثيم التي تسبب الأمراض؛ كما استغرقت عملية فصل الشبكتين وقتًا طويلا، بحجة التمويل.
ويشير حلواني إلى أن المخطط التوجيهي، كان يقضي ببناء محطة تستوعب كامل الصرف الصحي لحوض طرابلس، وهو ما لم يحصل، خصوصًا أنه كان هناك 18 منفذًا للصرف الصحي إلى نهر أبو علي، وتاليًا إلى البحر”.
يقول الخبير البيئي: “لقد خسرنا بيئيًا وصحيًا الكثير لعدم تفعيل محطة تكرير طرابلس بكامل طاقتها، وخسرنا فرصة تحويل مياه الصرف الصحي إلى مياه غير ملوثة، وتفادي رميها في البحر، خصوصا مع وجود نحو 8 منافذ للصرف الصحي إلى البحر في منطقة الميناء. كما خسرنا المعالجة الثنائية للحمأة وتاليًا انتاج البيوغاز، ومن ثم انتاج نحو 50% من الطاقة الكهربائية التي تحتاجها المحطة”.
إنها ليست محطة تكرير فحسب، بل هي فرصة ضائعة لحياة المدينة وسكانها. إذ هناك من يعتقد أن للبحر قدرة لا متناهية في معالجة الصرف الصحي، و”هذا غير صحيح، بل هي جريمة مائية وبيئية وصحية، لا سيما أن الصرف الصحي مليء بالملوثات الجرثومية والكيماوية، التي باتت تملأ بحرنا ومياهنا وهواءنا وحتى أجسادنا”، يختم حلواني.