عندما طلبت جهات مانحة من الجانب اللبناني لوائح بالأدوية اللازمة لمعالجة حروق مصابي انفجار بلدة التليل الشهر الماضي، تصدّرت أدوية المُضادات الحيوية تلك اللوائح. هذه الأدوية التي تُشكّل «عمود» العمل الطبي لم «تنقطع» من الصيدليات فقط، بل من كثير من المُستشفيات التي يعدّ توافر المُضادات فيها أمراً بديهياً. إذ إن «السيطرة على الأمراض ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتوافر المُضادات الحيوية»، بحسب أطباء الأمراض الجرثومية.
صحيح أن الانقطاع الكلي للمضادات الحيوية لا يزال مُستبعداً حتى الآن، خصوصاً بعد الوعود الأخيرة بحلحلة أزمة الدواء، إلا أن محدودية توافرها تضع المُقيمين في لبنان، سواء كانوا مرضى أو معرّضين للمرض، أمام مخاطر صحية جسيمة.
أول تداعيات انقطاع هذه الأدوية انعكس ارتفاعاً في حالات الدخول إلى المُستشفيات، «فالمريض الذي يحتاج إلى أربعة أيام للتعافي بفعل حبوب المُضادات الحيوية يحتاج حكماً إلى دخول المُستشفى لحقنه بالأدوية البديلة»، بحسب طبيب الأمراض الجرثومية باسم عواضة. ويُضيف: «بعض العلاجات يستلزم وصف أدوية لأنواع محددة من البكتيريا. غياب هذه الأدوية يدفع الطبيب إلى وصف أدوية تغطي أنواعاً كثيرة من البكتيريا، وهو أمر غير محبذ طبياً وله تداعيات خطيرة على بعض المرضى».
أما السيناريو الأسوأ فهو أن الانقطاع الكلي لهذه الأدوية يؤدي إلى «شلل» العمل الجراحي بمختلف أنواعه، «من الأشخاص الذين يخضعون لعمليات زرع أعضاء وصولاً إلى النساء اللواتي يخضعن لعمليات ولادة قيصرية»، على ما يقول البروفيسور في العلوم الجرثومية والغذائية في كلية الأغذية والعلوم الزراعية في الجامعة الأميركية في بيروت عصمت قاسم، جازماً بأن مخاطر انقطاع المضادات الحيوية في لبنان «تضاهي مخاطر انقطاع أدوية السرطان والأمراض المستعصية». أضف إلى ذلك، تأثير انقطاع المُضادات الحيوية على الفحوصات المخبرية، إذ «إنه يحول دون القدرة على إجراء كثير من الفحوصات اللازمة لفحص البكتيريا وتشخيص العلاج المطلوب».
انقطاع «أدوية الالتهابات» أمر خطير في أي مكان، لكنه في حالة لبنان يكتسب أبعاداً أخطر نتيجة عوامل عدة أبرزها اثنان: الأول توافر بيئة ملوثة تجعل مخاطر التسمم الغذائي والالتهابات الجرثومية عالية جداً، والثاني يتمثل بانتشار «ظاهرة» مقاومة المُضادات الحيوية.
وكانت«الأخبار» قد نشرت في شباط الماضي نتائج دراسة خلصت إلى أن 18 في المئة من الأطفال المقيمين في لبنان يحملون بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية، وهي ثاني أعلى نسبة في العالم. وأشارت تقديرات المختصين إلى أن نسبة تفشي هذه البكتيريا قد تلامس الـ30 في المئة، وهو ما عدّ نتاجاً طبيعياً لاكتساب الجراثيم في البحر اللبناني مناعة ضد أدوية الالتهابات، ومن ضمنها «الكوليستين» الذي يُستخدم بعد فشل معظم المضادات الحيوية الأخرى.
فقدان الأدوية المضادّة للالتهابات يعرّض كل المرضى للخطر بنسب متفاوتة، «لكن هذه النسبة حكماً أعلى ومضاعفة لدى مرضى زرع الأعضاء» بحسب نائب رئيس اللجنة الوطنية لوهب الأعضاء الدكتور أنطوان اسطفان. وأوضح لـ«الأخبار» أن الأدوية المضادة للالتهابات نوعان: bacteriocidal التي تبيد الجراثيم وتمنع تكاثرها، وacteriostatic التي تمنع نموّ البكتيريا، لافتاً الى أن «المريض الذي يخضع لجراحة نعطيه bacteriostatic ونعتمد على مناعته الذاتية للتغلب على الالتهاب، أما بالنسبة الى مرضى زرع الأعضاء، فالوضع مختلف لأننا نخفف مناعتهم لنحمي العضو المزروع، ما يجعل نسبة خطورة تعرّضهم للالتهابات عالية جداً. ولأننا لا نستطيع هنا الاعتماد على مناعة المريض الذاتية، يجب استعمال الـ bacteriocidal لمنع حصول الالتهابات التي تعرّض المريض للخطر أو لخسارة العضو المزروع».