فُتِحَ السجال ولم يُقفَل حول ملف “إشغال وإدارة واستثمار مطاعم وكافيتريات في مبنى الركاب الحالي” في مطار بيروت، والتي ربحتها شركة نيفادا Nevada SAL بعد تقديمها عرضاً مالياً بقيمة 3 مليون و453 ألف و210 دولار سنوياً، تشمل الضريبة على القيمة المضافة. وبعد فض العروض وإتمام التلزيم، طُرِحَت علامات استفهام حول المبلغ الذي عرضته الشركة، فهو مرتفع جداً مقارنة مع سعر الافتتاح الذي حددته الدولة بـ700 ألف دولار.
وصل النقاش إلى لجنة الأشغال العامة النيابية، واستَعَر داخلها وانتهى إلى الاتفاق على إجراء عملية تدقيق في طريقة تنفيذ العقد على أرض الواقع. ومع أن الملف أقفِل على مستوى التلزيم القانوني، إلاّ أنه لم يُطوَ على مستوى النقاش الذي ينسحب إلى الميدانَين السياسي والمالي، خصوصاً وأن نيفادا فازت بالمزايدة على حساب الشركة اللبنانية لتموين مطار بيروت LBACC، وهذا ما أشعل السجال، إذ كان من المفترض أن تجري رياح المزايدة وفق ما تشتهيه سفن LBACC. فماذا حصل، وما حقيقة المبالَغة بأرقام المزايدة، وكيف ستؤمِّن الشركة الفائزة أرباحها؟.
مزايدة قانونية
مرَّ المسار القانوني للمزايدة بشكل سليم. وتحت إشراف هيئة الشراء العام واطِّلاع ديوان المحاسبة على المستندات ودفتر الشروط، جرى فضّ العروض وتلزيم شركة نيفادا بصورة قانونية.
غاب الملفّ قليلاً حتى بدأ يُتداوَل على مواقع التواصل الاجتماعي بأسعار سلع مرتفعة جداً، في مطاعم وكافيتريات المطار؛ فضلاً عن عدم الوصول إلى حل نهائي لعمّال شركة LBACC الذين يطالبون بضمان استمرارية عملهم مع الشركة الجديدة، وتفاصيل أخرى لا تقل أهمية، وتتعلّق بالمساحات المستعمَلة في المطار من قِبَل الشركة… وغير ذلك.
ولمزيد من الضغط لكشف التفاصيل وحقيقة الأرقام المعلن عنها، رفع النائب إبراهيم منيمنة الصوت باتجاه وزارة الأشغال. ولم يكن ممكناً كتم الصوت داخل لجنة الأشغال العامة النيابية التي عقدت اجتماعاً يوم الخميس الماضي، حضره إلى جانب أعضاء اللجنة، مدير العام للطيران المدني فادي الحسن، ورئيس هيئة الشراء العام جان العلية، كونهما معنيان مباشرة بعملية التلزيم ومتابعة تطبيق بنود دفتر الشروط.
الجلسة لم تكن هادئة، بل صاخبة جداً، وفق توصيف مصادر حضرت الجلسة. فارتفع فيها الصوت بين الحسن والنائب وضّاح الصادق. فأصرَّ الصادق على أن وراء السعر المرتفع ما يُخفى، وأنه مدخل لوضع أسعار خيالية للسلع في المطار، وستُحَصَّل الأرباح من جيوب المسافرين.
ووفق ما تقوله المصادر لـ”المدن”، فإن السجال المستمر أفضى إلى “إرسال هيئة الشراء العام مهندساً خبيراً للمطار، وعايَنَ المساحات المشغَّلة وسلَّم الحسن كتاباً يطلب إيضاحات حول بعض النقاط، منها ما يتعلّق بالمساحات المفترض إشغالها وما يُحكى عن تبديلها بمساحات أخرى، وما ينطوي عن هذه العملية من ربح للشركة المشغّلة، إذ ستستأجر مساحات بسعر معيَّن، وتستبدلها على أرض الواقع بمساحات أخرى تؤجَّر بأسعار أعلى، ويُدفَع للدولة السعر الأدنى. كما أن الكتاب يتضمَّن تأكُّد إدارة المطار من أن الشركات الثانوية التي ستتسلَّم عقوداً من الباطن من شركة نيفادا، تمتلك المقدرات والمؤهلات المطلوبة، إلى جانب الرقابة على الأسعار”. وتخلص المصادر إلى أن هيئة الشراء العام تنتظر تقريراً من إدارة المطار، لتبني عليه ملاحظاتها وتبلّغها للمراجع المختصّة”. ولا تستبعد المصادر “إرسال الهيئة خبيراً لمعاينة الوضع على أرض الواقع قبل إرسال التقرير”.
ومع ذلك، لم يُطعَن في الجلسة، وإن كلامياً، بقانونية التلزيم الذي جرى تحت إشراف هيئة الشراء العام وبموافقة ديوان المحاسبة. ولذلك “التلزيم قانوني تماماً. أما السعر المرتفع، فهو نقاش آخر، لكن في جميع الأحوال، لا يمكن رفض مبلغ مالي كبير سيدخل إلى خزينة الدولة بصورة قانونية، فقط لأنه لا يتناسب مع الأسعار المقدَّمة سواء سعر الافتتاح أو السعر الذي وضعته شركة LBACC وهو 976 ألف و800 دولار”.
صراع نفوذ
قانونية التلزيم لا تعني أن لا غبار كلّياً في زوايا الملف. ففي طيّاته صراع نفوذ بين طرفين، حُسِمَ لصالح أحدهما. إذ أن شركة نيفادا تعود لرجل الأعمال والمتعهّد وسام عاشور، فيما شركة LBACC تعود للمدير العام لشركة طيران الشرق الأوسط محمد الحوت، إذ أنها “مشروع مشترك مملوك بأغلبيته من شركة طيران الشرق الأوسط وقد قام هذا المشروع بناء على عقد اتفاق بين الميدل إيست ومؤسسَة تشجيع الإستثمارات (إيدال) التابعة لرئاسة مجلس الوزراء لإدارة واستثمار كافة المطاعم والمرافق المماثلة في مطار رفيق الحريري الدولي”، وفق ما تورِده شركة طيران الشرق الأوسط على موقعها الإلكتروني.
ويتجسّد صراع النفوذ مالياً من خلال العرض المالي المقدَّم في المزايدة. ففي وقتٍ كانت تعتقد فيه شركة LBACC أن التلزيم سيُجَيَّر لها على شكل تمديد تلقائي مستمر منذ العام 2016، رفعت شركة نيفادا سقف المواجهة، مقدّمة مبلغاً خيالياً لم تتوقّعه LBACC التي وضعت مبلغاً لا يزيد كثيراً عن سعر الافتتاح. ولم يكن هناك احتمالاً للمناورة وإنقاذ LBACC لأن مستندات نيفادا قانونية وسعرها أعلى بكثير.
التركيز على السعر لطرح علامات استفهام، ليس صلباً كثيراً لأن الأسعار المقدّمة في سنوات سابقة للأزمة ولتحرُّك سعر صرف الدولار، لم تبتعد بشكل كبير عن السعر الذي قدّمته نيفادا، إذا جرى النظر للسعر من زاوية الدولرة التي طالت كل القطاعات، سيّما وأن بيع السلع والخدمات بات مقوَّماً بالدولار، والشركة في هذه الحالة قوَّمَت عرضها بالدولار بالتوازي مع تقويمها أسعار السلع التي ستبيعها، بالدولار. وفي هذه الحالة، يصبح السعر المقدَّم من شركة LBACC وسعر الافتتاح، تحت المستوى المطلوب.
وبالعودة إلى نهاية العام 2015 حين جرى تلزيم شركة LBACC وبداية العام 2016 حين انطلق العمل فعلياً في المطار، فقد عرضت الشركة سعراً بنحو 2 مليون و250 ألف دولار، وفقاً لسعر الدولار الثابت يومها عند نحو 1500 ليرة. وبما أن الدولرة الحالية أعادت عقارب الأسعار إلى ما يوازي القيمة التي كانت عليها في أعقاب تثبيت الدولار، يُفتَرَض بالدولة الحصول على إيرادات وفق المعادلة الجديدة، سيّما وأنها في موازناتها، تحاول رفع الرسوم والضرائب لتتناسب مع الدولرة. ولذلك، فإن سعر الإفتتاح لمزايدة المطار، أي 700 ألف دولار، هو سعر بخس جداً لعملية تلزيم ستعود على الشركة الرابحة بملايين الدولارات. وعليه، تقول المصادر، أن “سعر الافتتاح لم يوضَع بطريقة علمية”.
العبرة بالتدقيق والرقابة
صراع نفوذ انتهى بتسجيل عاشور نقطة في مرمى الحوت على أرضه التي يستثمر فيها منذ العام 2016. وبما أن الدولة ضمنت مبلغاً كبيراً نتيجة الصراع، إلاّ أن عليها إجراء رقابة مشدّدة على الأسعار التي تضعها الشركة الرابحة كي لا تؤمِّن ما دفعته للدولة، من جيب المسافرين، وتكون بذلك قد كسبت المزايدة على حساب المسافرين والمصلحة العامة. وهنا، لا تستبعد المصادر أن يكون طرح سعر مرتفع “بانتظار تحصيله لاحقاً بطرق ملتوية. علماً أن دفتر شروط المزايدة ينص على جواز رفع الأسعار بضعف سعر السوق فقط، بعد التبرير وموافقة إدارة المطار”.
المزايدة حصلت “وما يُبحَث اليوم مجرَّد تفاصيل لا تغيِّر في الواقع شيئاً”. وهذا النوع من الصفقات العمومية “لا يخلو من الغطاء السياسي” حتى لو هُزِمَ أحد اللاعبين. فمن مصلحة الجميع القبول بالنتائج والاستعداد للمواجهة المقبلة في صفقات أخرى، شرط الإلتزام بقواعد اللعبة التي تحكم عملية تلزيم المشاريع عبر مؤسسات الدولة وإداراتها ومرافقها. فمن يفوز اليوم قد يخسر غداً، لكن الجميع ينضوون تحت سقف متعهّدي الجمهورية. لكن هذه المرة، هناك فارق جوهري، وهو وجود هيئة الشراء العام التي تستطيع فتح الملف ساعة ترى أي خرق لدفتر الشروط وللقانون.