للمرّة الثانية على التوالي، أظهرت ميزانيّة مصرف لبنان نصف الشهرية توسّعاً هائلاً في كميّة السيولة المتداولة بالليرة خارج مصرف لبنان. فبعد أن ارتفعت كمية هذه السيولة من 45 ألف مليار ليرة في منتصف شهر أيلول إلى 58.94 ألف مليار ليرة في آخر الشهر (راجع المدن)، عادت قيمتها لترتفع من جديد لتصل إلى حدود 69.8 ألف مليار ليرة في منتصف شهر تشرين الأوّل. بهذا المعنى، بين منتصف الشهر الماضي ومنتصف الشهر الحالي، أي خلال فترة شهر واحد، تضخّمت الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة بنسبة 55%. أو بصورة أوضح: بات حجم السيولة بالليرة الموجود ورقيًّا في السوق يوازي اليوم 1.55 مرّات حجم هذه السيولة في منتصف الشهر الماضي.
تعويم الاحتياطات على حساب قيمة الليرة
إنه جنون طبع النقد مجددًا، إنما بمستويات خطيرة ومخيفة، وبكميات باتت تضرب أرقاماً قياسيّة جديدة عند نشر كل ميزانيّة نصف شهريّة للمصرف المركزي. مع الإشارة إلى أنّ لبنان لم يعهد زيادة فوريّة وسريعة بحجم الكتلة النقديّة، وبهذه المستويات المخيفة، حتّى عند أشد مراحل الأزمة النقديّة. هذا ما رفع حجم الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان الآن إلى أعلى مستويات في تاريخ الجمهوريّة اللبنانيّة. وفي النتيجة، بات حجم هذه السيولة اليوم يوازي أكثر من 6.5 مرّات حجم هذه السيولة قبل اندلاع الأزمة المصرفيّة في تشرين الأوّل 2019، ما يشير إلى حجم التشوّه الذي طال بنية الكتلة النقديّة في السوق.
ومرّة جديدة، لا يحتاج قارئ الميزانيّة نصف الشهريّة لكثير من التحليل لفهم سبب هذا التوسّع الكبير في خلق النقد. فحجم احتياطات المصرف المركزي ارتفعت خلال الفترة نفسها بنحو 415 مليون دولار، وهي زيادة جرت من خلال شراء الدولارات بشكل مباشر من السوق الموازية، عبر مجموعة من شركات الصيرفة وتحويل الأموال التي يتعامل معها مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ دفع ثمن هذه الدولارات بالليرات الورقيّة، يجري تحديدًا عبر خلق النقد من قبل المصرف المركزي، وهو ما يفسّر توسّع الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة خلال هذه الفترة، وبهذا الحجم الضخم وغير المسبوق.
من الناحية العمليّة، ستعني هذه التطورات أنّ مصرف لبنان قد اختار تعويم احتياطاته، إنما على حساب قيمة الليرة التي باتت تدفع ثمن توسيع خلق النقد بهذا الشكل. فسعر صرف الدولار في السوق الموازية كان قد ارتفع خلال الفترة نفسها من 36,600 ليرة قبل منتصف شهر أيلول، إلى مستويات تتجاوز 40 ألف ليرة بعد منتصف شهر تشرين الأوّل، ما يدل بوضوح على أثر طبع النقد من جهة قيمة العملة المحليّة، خصوصًا في ظل تسابق شركات الصيرفة التي تتعامل مع مصرف لبنان على جمع هذه الدولارات بجميع الطرق المتاحة، لمحاولة تحصيل العمولات المغرية التي تؤمنها هذه العمليّات. تجدر الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان يعرض على هذه الشركات عمولات تصل إلى حدود 3%، من قيمة الدولارات التي يجري جمعها لصالحه، وهو ما خلق شبكة جديدة من المصالح المتشابكة ما بين المصرف المركزي وشركات الصيرفة في السوق الموازية.
خسائر إضافيّة في ميزانيّة مصرف لبنان
في كل الحالات، لم تقتصر الآثار الجانبيّة لهذه العمليّات على حجم السيولة المتداولة بالليرة، وعلى سعر الصرف في السوق الموازية. فبما أن المصرف المركزي استنزف ليرات ورقيّة لشراء الدولار بسعر الصرف الفعلي المرتفع في السوق الموازية، من البديهي أن تتراكم في ميزانيّة المصرف كميّات إضافيّة من الخسائر، التي يتم في العادة إخفاؤها من خلال تسجيل موجودات وهميّة في بند “الموجودات الأخرى”. وخلال الفترة الممتدة بين 15 أيلول و15 تشرين الأوّل، تراكم في هذا البند 24.2 ألف مليار ليرة إضافيّة من الخسائر غير المُعالجة، ما رفع قيمة بند الموجودات الأخرى من 109 ألف مليار ليرة في منتصف الشهر الماضي، إلى 133.6 ألف مليار ليرة في منتصف هذا الشهر.
وفي النتيجة، وبعد تراكم كل هذه الخسائر الإضافيّة، بات حجم الخسائر التي يُفترض أن يتم التعامل معها في ميزانيّة مصرف لبنان يوازي نحو 48% من إجمالي قيمة موجودات المصرف. أمّا أهم ما في الموضوع، هو أنّ مصرف لبنان بات يخلط في بند الموجودات الأخرى كتلة من الخسائر المتراكمة بالليرة اللبنانيّة (نتيجة شراء الدولار من السوق)، مع الخسائر المتراكمة بالدولار الأميركي (نتيجة الدعم وتثبيت سعر الصرف)، وهو ما بات يعيق قياس قيمة الخسائر الفعليّة بالدولار الأميركي. وعلى أي حال، من الأكيد أنّ خطّة التعافي الماليّة، التي جرى على أساسها التفاوض مع صندوق النقد، باتت بحاجة إلى تحديثات وتعديلات وازنة، لجهة تقديراتها المرتبطة بحجم الخسائر المصرفيّة، بعد أن تراكمت في ميزانيّة المصرف المركزي كل هذه الخسائر الجديدة.
سائر بنود الميزانيّة
بالنسبة إلى سائر بنود الميزانيّة، استمرّ الانخفاض بقيمة احتياطات الذهب الموجودة بحوزة المصرف المركزي، نتيجة انخفاض أسعار الذهب في الأسواق العالميّة. فلغاية منتصف شهر تشرين الأوّل، كان هذا البند قد فقد نحو 253 مليون دولار من قيمته، مقاربة بمنتصف شهر أيلول الماضي، لتبلغ قيمة هذا البند اليوم نحو 15.32 مليار دولار. كما انخفضت قيمة التزامات المصرف المركزي للمصارف التجاريّة بنحو 831 مليون دولار أميركي، إلا أنّ تحديد أبعاد هذا الانخفاض يبقى متعذّرًا نتيجة الخلط بين إلتزامات مصرف لبنان المقوّمة بالعملة المحليّة والدولار الأميركي تحت هذا البند، خصوصًا أن حجم الإلتزامات المدولرة يجري التصريح عنه بسعر الصرف الرسمي القديم، ما يخفي قيمته الفعليّة.
في خلاصة الأمر، لا يوجد حتّى اللحظة إجابة شافية تفسّر سبب انكباب مصرف لبنان على مراكمة الاحتياطات الإضافيّة بهذا الشكل، على حساب قيمة الليرة، خصوصًا أن دور المصرف المركزي يفترض أن يكون استعمال الموارد المتاحة لضبط سوق القطع، لا زيادة الضغط على سوق القطع لزيادة احتياطاته. ثمّة تحليلات تشير إلى استعداد المصرف المركزي لعمليّة تدخّل واسعة في السوق، بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهوريّة، وقبل انتهاء ولاية الحاكم، لتأمين خروج سلس للحاكم من موقعه خلال العام المقبل. كما ثمّة من يرجّح اتصال هذه العمليّات باستعداد مصرف لبنان لتمويل استيراد الفيول لصالح مؤسسة كهرباء لبنان، بسعر المنصّة، بعد زيادة تعرفة المؤسسة. إلا أنّ جميع هذه التحليلات تبقى حتّى اللحظة مجرّد تكهّنات، في ظل الغموض الكبير الذي تتسم به السياسة النقديّة المعتمدة من قبل المصرف المركزي اليوم.