ستّة أيّام فقط لا غير، هي ما يفصل لبنان عن انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يوم الإثنين المقبل. وحتّى هذه اللحظة، ما زالت المناورات والمكائد المتبادلة تطغى على مواقف جميع الأطراف المعنيّة في هذا الملف، من دون أي استثناء، حيث يبدو من الواضح أنّ كل طرف يخفي أولويّاته الفعليّة خلف مواقف عموميّة تزيد المشهد تعقيدًا. وأمام هذا المشهد، أصبح من الواضح أنّ مصير الحاكميّة سيُحدد في اللحظات الأخيرة، وعلى أساس مساومات بعيدة عن الحسابات النقديّة والماليّة، التي تختبئ خلفها بمكر السجالات المُعلنة، ومنها مواقف نوّاب الحاكم الملتسبة.
باسيل والسلّة الرئاسيّة والتباين بين أمل وحزب الله
حتّى هذه اللحظة، يصرّ رئيس التيّار الوطني الحر، جبران باسيل، على فكرة تعيين حارس قضائي مكان حاكم مصرف لبنان، إذا استمرّ نوّاب الحاكم برفض تحمّل مسؤوليّة إدارة السياسة النقديّة، بعد رحيل الحاكم. ومن خلال هذه الفكرة، يزاوج باسيل ما بين موقفه المعروف الرافض للتمديد للحاكم، واعتراضه على تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان في ظل الشغور الرئاسي، وبوجود حكومة تصريف أعمال.
عمليًا، يدرك باسيل الموانع الكبيرة التي تحول دون تنفيذ فكرته هذه، وفي طليعتها اعتراض الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة على فكرة تسليم المصرف لحارس قضائي. كما تحيط بهذه الفكرة شكوك كبيرة من جهة قانونيّتها، لكون مصرف لبنان يمثّل مؤسسة عامّة مسؤولة عن اتخاذ قرارات مصرفيّة ونقديّة حسّاسة، لا شركة خاصّة متنازع على ملكيّتها، حتّى يتم تعيين حارس لحماية موجوداتها. ولهذا السبب، من المرجّح أن لا يتمكّن باسيل أو غيره من انتزاع هذا النوع من الأحكام القضائيّة، كما من المستبعد أن يجد قاضيًا رفيعًا يقبل تحمّل مسؤوليّة قرار حسّاس من هذا النوع.
لكل هذه الأسباب، من المرجّح أن يكون موقف باسيل مجرّد مخرج شكلي يسمح له بتبرير عرقلة تعيين حاكم جديد في مجلس الوزراء، أو التمديد لرياض سلامة، على قاعدة أنّ الخيارات والحلول متاحة في حال رفض نائب الحاكم الأوّل تسلّم مسؤوليّاته، بحسب المادّة 25 قانون النقد والتسليف. ولهذا السبب، يمكن القول أنّ أقصى ما يمكن أن يحققه باسيل من هذه المطالب هو انتزاع تنازل من جانب عين التينة والنائب الأوّل للحاكم، عبر قبول النائب الأوّل تسيير الأعمال في المصرف المركزي، بمجرّد عرقلة أي محاولة لانتزاع قرار بتعيين حاكم جديد، أو بالتمديد للحاكم الحالي في مجلس الوزراء.
مصادر مطلعة على مشاورات باسيل مع حزب الله تؤكّد أن رفض باسيل لتعيين حاكم جديد يرتبط بالمفاوضات التي يجريها حاليًا مع الحزب، بخصوص الملف الرئاسي. إذ يبدو أن هذه المفاوضات لن تقتصر على شخصيّة المرشّح الرئاسي، بل ستشمل سلّة متكاملة من التعيينات في الحاكميّة ومفوّض الحكومة في المصرف المركزي وقيادة الجيش ومنصب مدير عام الماليّة وغيرها من المواقع المسيحيّة الحسّاسة. وعلى هذا الأساس، يفضّل باسيل أن تبقى الحاكميّة ورقة للمقايضة في المرحلة المقبلة، بما يسمح له بالحصول عليها أو التنازل عنها، مقابل مكاسب أو تنازلات في جوانب أخرى من الصفقة المنتظرة.
ومن هذه الزاوية أيضًا، يمكن فهم موقف حزب الله، الذي تباين بوضوح مع موقف عين التينة. فحتّى هذه اللحظة، لم يشهر الحزب سوى موقف يتيم، يرفض من خلاله تعيين حاكم جديد في ظل حكومة تصريف الأعمال، وهو ما بدا كتقاطع مع باسيل على ضرورة تأجيل التعيين في هذا المنصب، ليتم اختيار الحاكم الجديد في ضوء المفاوضات المرتبطة بالملف الرئاسي. مع الإشارة إلى أنّ حزب الله أوصل سابقًا رسالة مماثلة في تباينها مع موقف أمل، من خلال التغيّب عن بعض الاجتماعات النيابيّة مع نوّاب حاكم مصرف لبنان، في دلالة على امتعاض الحزب من الضغوط التي يمارسها نوّاب الحاكم قبل انتهاء ولاية سلامة، في حين ظهر نوّاب أمل في موقع المتحمّس لمناقشة وتفهّم هواجس نوّاب الحاكم.
برّي وأرانب اللحظات الأخيرة
بدوره، يبدو برّي منشغلًا بإخراج أرانب اللحظات الأخيرة، التي استفادت بشكل واضح من مناورات نوّاب الحاكم الأخيرة، ومنها فورة اجتماعتهم في المجلس النيابي والسراي الحكومي. آخر هذه الأرانب، كانت الطلب من رئاسة الحكومة الذهاب باتجاه تعيين حاكم جديد للمصرف المركزي، بحجّة عدم استعداد عين التينة لتحميل الطائفة الشيعيّة وزر إدارة السياسة النقديّة في هذه الظروف الحسّاسة، وفي ظل عدم استعداد نوّاب الحاكم لتحمّل مسؤوليّاتهم بغياب “الضمانات” التي طالبوا بها في السراي والمجلس النيابي.
وتمامًا كباسيل، يدرك برّي صعوبة تحقيق مطلبه الراهن، على مسافة أيّام قليلة من انتهاء ولاية سلامة، وفي ظل الرفض القاطع الذي أعلنه كل من باسيل وحزب الله لفكرة تعيين حاكم جديد في هذه الظروف. ولهذا السبب، قد تكون نتيجة هذه المناورة إمّا طرح التمديد لحاكم مصرف لبنان في اللحظات الأخيرة، وهو خيار مازال مطروحًا بقوّة بحسب المتابعين لموقف عين التينة ومشاوراتها، أو القبول بتسلّم نوّاب الحاكم دفّة إدارة المصرف، إنما بعد استقالة يليها رفض من جانب الحكومة، ما قد يخلي ساحة النائب الأوّل للحاكم من المسؤوليّة إزاء تطوّرات المرحلة المقبلة.
في الوقت نفسه، تلفت بعض المصادر النيابيّة إلى تطوّرات لافتة، ومنها الانسجام الواضح بين نوّاب حركة أمل والقوّات اللبنانيّة في التعامل مع هذا الملف، داخل المجلس النيابي. وهذا الانسجام ظهر من خلال إحالة ملف الاجتماعات مع نوّاب الحاكم إلى لجنة الإدارة والعدل، التي يرأسها النائب جورج عدوان، بدل أن تقوم بهذه المهمّة لجنة المال والموازنة، التي يفترض أن تختص بهذا الملف. كما بدا أنّ نواب القوّات تشاركوا مع نوّاب أمل الحذر المفرط، إزاء مآلات الوضع النقدي بعد انتهاء ولاية سلامة، في ظل المعطيات والتحفّظات التي أعلن عنها نوّاب الحاكم.
ميقاتي: الموقف الغامض والملتبس
أمام كل هذه التطوّرات، يبقى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي صاحب الموقف الأكثر غموضًا من بين جميع الأطراف المعنيّة بهذا الملف. فاجتماعه الأخير مع نوّاب الحاكم أفضى إلى طلب تأخير استقالتهم لغاية يوم الخميس المقبل، مع الإيحاء بإمكانيّة تقديم بعض الضمانات التي يطالبون بها، من دون تقديم خريطة طريق أو وعود واضحة بهذا الخصوص.
وبذلك، يبدو أنّ رئيس الحكومة يدرك أن العقد الفعليّة لا تكمن في الضمانات النقديّة والماليّة التي يطالب بها نوّاب الحاكم، بل في موقف المرجعيّة السياسيّة التي تمسك بقرار النائب الأوّل للحاكم، وهو ما يسعى ميقاتي إلى معالجته بعيدًا عن الأضواء. أمّا بخصوص الموقف من التمديد لحاكم مصرف لبنان، فما زالت أوساط ميقاتي توحي باستبعاد هذا الخيار، رغم معرفتها بأن الكثير من التطوّرات الراهنة يمكن أن تقود الأمور بهذا الاتجاه.
في النتيجة، لا يبدو أن التوازنات القائمة ستنتج أي حل في الساعات القليلة المقبلة، بانتظار حلول يوم الخميس، الذي تشيع أوساط نوّاب الحاكم بأنّه سيكون اليوم الحاسم، قبل تقديم استقالتهم الجماعيّة. وبعد هذا التاريخ، سيكون أمام الحكومة خيار رفض هذه الاستقالة، إلا أنّ استعداد نوّاب الحاكم لتحمّل مسؤوليّتهم هو ما سيحدد إمكانيّة المضي إلى مرحلة ما بعد رياض سلامة بسلاسة. أمّا اعتكاف النوّاب الأربعة، حتّى في حال رفضت الحكومة استقالتهم، فسيعني طرح احتمالات التمديد لحاكم مصرف لبنان كأمر واقع.