فريق العمل المكلّف من رئيس الحكومة، يعمل على جمع المقترحات والاعتراضات التي وردت إليه، بخصوص مسودّة مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف. من هذه الملاحظات، ستولد مسودّة جديدة يأمل واضعوها أن لا تُلاقي مصير جميع المسودّات السابقة، التي سقطت منذ العام 2020 قبل أن تُناقش جديًا على طاولة مجلس الوزراء. وفي مصرف لبنان، تسرّب الحاكميّة -عبر “مصادر” مجهولة الهويّة، كالعادة- أنباءً عن خطّة جديدة يعمل عليها المصرف المركزي. المعالم الأساسيّة لخطّة المركزي، مشابهة جدًا -وفق ما تمّ تسريبه على الأقل- لتلك التي جرى طرحها على طاولة مجلس الوزراء مؤخرًا. وهذا ما يثير تكهّنات عدّة حول “الاختراع الجديد” الذي سيقدّمه مصرف لبنان في خطّته، بعدما انقلب المصرف على الخطّة السابقة رغم مشاركته في إعدادها.
المشهد عبثي ومضجر ولا يوحي بالجديّة لأحد. وهناك شعور لدى معظم المتابعين بأنّ ما يجري لا يتجاوز حدود إعادة تدوير الأفكار وعجنها، لملء الفراغ ببعض المبادرات والأخذ والرد. هي اللعبة ذاتها منذ أكثر من أربع سنوات. وثمّة ما يؤكّد ذلك في المجلس النيابي، الذي سيجتمع غدًا الثلاثاء على مستوى اللجان المشتركة، لمناقشة ثلاثة مشاريع قوانين تتجه جميعها لإنشاء أطر تستثمر الأصول أو الإيرادات العامّة، في عمليّة تعويم القطاع المصرفي وإطفاء خسائره. البرلمان في كوكب آخر، وما يستهدفه يبدو أقرب إلى هذيان بمعايير الخطط الماليّة الرصينة.
رؤية مصرف لبنان
الرؤية التي يسوّقها المصرف المركزي، لا تختلف كثيرًا عن المعايير الأساسيّة لإعادة الهيكلة، المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي. وجميع الذين قابلوا الحاكم بالإنابة، لم يستشعروا ابتعاده كثيرًا عن هذه الأولويّات. هنا، تطول لائحة التساؤلات حول سرّ السلبيّة التي أبداها المصرف سابقًا، في وجه مشروع إعادة الهيكلة الذي تمّ طرحه في الحكومة.
في جميع الحالات، تركّز رؤية مصرف لبنان على التمييز بين الودائع التي سيتم ضمانها لحدود المئة ألف دولار أميركي، والودائع الأكبر حجمًا، التي سيتم التعامل مع أصحابها كـ”مستثمرين”. والتعامل مع هؤلاء المستثمرين، يمكن أن يتم بأدوات ماليّة مختلفة، من بينها تحويل السيولة إلى أسهم في المصارف نفسها، أو سندات صفريّة مربوطة باستثمارات متداولة في الأسواق الدوليّة. ولتخفيض حجم الفجوة، يراهن المصرف على تمييز الودائع بحسب مشروعيّتها، مع وضع شروط مفصّلة لكيفيّة إثبات هذه المشروعيّة، كما يرى المصرف ضرورة شطب الفوائد التي تراكمت كودائع.
وتمامًا كحال مشروع الحكومة نفسه، لا تقدّم الخطّة الكثير من الإجابات حول كيفيّة التعامل مع الجزء المتبقي من الفجوة المصرفيّة. إذ أنّ جميع هذه الإجراءات، رغم أهميّة بعضها، لا تكفي لسد الفجوة، وذلك ما يطرح شكوكاً حول نسبة الحسم التي سيتم تطبيقها عند تحويل الودائع الكبيرة إلى سندات صفريّة أو أسهم في المصارف. أمّا المشكلة الأهم، فهو أنّ جميع هذه المقاربات -في خطّة المركزي تمامًا كما خطّة الحكومة- تجري من دون إنجاز التدقيق الشامل في الميزانيّات المصرفيّة، ما يجعل الخطط أقرب إلى “التنجيم” بغياب الأرقام المفصّلة.
الإشكالية في رؤية المصرف المركزي، هو اتجاهه حاليًا إلى مقاربات ستعمل على تمويل المصارف بالليرة اللبنانيّة خلال الفترة المقبلة، للتعويض عن نقص السيولة المتوفّرة لديها بالدولار النقدي، عند تسديد الحد الأدنى المضمون من الودائع. بهذا المعنى، وبدل إجبار المصارف على تأمين هذه السيولة عبر إعادة الرسملة، سيتم تحميل الكلفة لآليّات خلق النقد في مصرف لبنان.
وكما هو معلوم، يقوم المصرف المركزي حاليًا بامتصاص فائض السيولة بالليرة من السوق من خلال الرسوم والضرائب التي تحصّلها الدولة، مع تقنين الإنفاق العام وحبس الإيرادات العامّة في مصرف لبنان. وبذلك، تصبح عمليّة تمويل المصارف ملقاة على الأموال العموميّة بشكل أساسي. وفق النموذج القائم الآن: تأمين السحوبات بالليرة، سيعني تمويلها من الإيرادات العامّة، أي من الشعب اللبناني.
البرلمان منفصل عن الواقع
يوم غدٍ الثلاثاء، من المرتقب أن تجتمع اللجان المشتركة النيابيّة، لمناقشة بعض مشاريع القوانين، ومن بينها ثلاثة مشاريع قوانين تقدّم بها نوّاب القوّات والتيّار الوطني الحر وأمل، بخصوص الأزمة المصرفيّة. جميع تلك المشاريع تدور حول فكرة واحدة: تبنّي خطّة جمعيّة المصارف، التي تقوم على ربط الخسائر المصرفيّة بمشاريع استثمار وخصخصة الأصول العامّة، أي تحويل جزء من الودائع إلى ديون عموميّة مترتبة على هذه المشاريع.
من الواضح أنّ البرلمان اللبناني بات منفصلًا عن الواقع إلى حد بعيد. حيث ستقوم اللجان المشتركة يوم غدٍ بمناقشة هذه المشاريع الخطيرة، بمعزل عن الخطّة الحكوميّة ومشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، وبعيدًا عن مقاربات شاملة تحدّد حجم الفجوة وكيفيّة التعامل معها.
المسألة الأخطر، هي أنّ البرلمان يعود لطرح هذه المشاريع، رغم علم الكتل الأساسيّة فيه بمخاطر هذه المقاربات، التي ستعطي الدائنين وحملة سندات اليوروبوندز أوراقاً قانونيّة تسمح بوضع اليد على ذهب واحتياطات المصرف المركزي، المودعة في الولايات المتحدة الأميركيّة. ويعرف النوّاب جيدًا أن لحظة ظهور المطالبات القانونيّة، من جانب الدائنين، قد اقتربت كثيرًا، حيث يمتلك الدائنون مهلة تنتهي في شهر آذار المقبل، للمطالبة قانونيًا بالفوائد المتراكمة على السندات.
مجرّد السير بهذه المشاريع، سيعني عمليًا طي صفحة الخطّة الحكوميّة بالكامل، التي تقوم على معايير صندوق النقد الدولي الرافض لهذه المقاربة. ورفض الصندوق لهذه الأفكار، ينبع من علمه باستحالة رد الودائع على هذا النحو، أي عبر ربطها بالدين العام، في الوقت الذي تعجز فيه الدولة عن إعادة هيكلة ديونها القائمة بالفعل. باختصار، ما يقوم به البرلمان يُعتبر انتحارًا ماليًا، ستعجز الدولة من بعده عن القيام بأبسط أدوارها الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وبطبيعة الحال، لن تُفضي هذه المقاربة إلى أي انتظام مصرفي أو مالي، بعد تأبيد الخسائر وربطها بإيرادات زهيدة للغاية.
هكذا، تدور الأزمة الماليّة في حلقة مفرغة. بين برلمان لا يقارب الأزمة بـ”ألف باء” أصول إعادة الهيكلة المصرفيّة، ومصرف مركزي يعد خططه الموازية لخطّة الحكومة، وحكومة تعيد تدوير أفكارها السابقة التي أسقطها نفوذ اللوبي المصرفي. المشكلة الأهم، هي أن جميع الأطراف تطبخ أفكارها بعيدًا عن أي نقاش علني وصريح أمام الرأي العام، ومن دون توفّر أي أرقام وإحصاءات جديّة، تؤكّد أو تنفي واقعيّة الحلول المطروحة. ما يجري يبدو أقرب إلى المناورات المتبادلة، وهذا سيؤكّده مصير المشاريع المطروحة لاحقًا.