كثيرون فهموا الدعوة التي أطلقها حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري الى ضرورة عودة التسليف المصرفي على غير حقيقتها. وربط كثيرون الدعوة بمصير الودائع، وفق نظرية أن لا عودة للقطاع المصرفي الى ممارسة وظيفته التمويلية، قبل انجاز الاتفاق على كيفية إعادة الودائع.
طُرحت تساؤلات كثيرة حول الموقف الذي أطلقه منصوري في موضوع عودة التسليف المصرفي، وتمحورت التساؤلات حول النقاط التالية:
أولاً – ما هو مصدر الاموال التي قد تستخدمها المصارف للتسليف في السوق؟
ثانياً – ما هي ضمانات التسليف، طالما انّ القروض السابقة تمّت إعادتها بالليرة او باللولار؟
ثالثاً – هل ان كل المصارف قادرة على التسليف؟
رابعاً – هل من المسموح ان يعود القطاع المصرفي الى ممارسة وظيفته التمويلية، قبل انجاز الاتفاق على كيفية اعادة الودائع؟
خامساً – هل يمكن للمواطن ان يستعيد الثقة في المصارف، ويعود الى ايداع الاموال فيها؟ ومن دون ذلك، هل تستطيع البنوك العودة الى الاقراض في السوق؟
سادساً – ما هي الفوائد والاضرار التي يمكن ان تنتج عن خطوة من هذا النوع في هذا التوقيت؟
كل هذه التساؤلات، طرحها المتوجّسون من دعوة منصوري الى عودة التسليف المصرفي. وهي تساؤلات مشروعة تحتاج الى توضيحات واجابات مُقنعة، خصوصاً بالنسبة الى المودعين. لكن من يتابع المسار الذي يتبعه الحاكم بالانابة يدرك انّ الرجل يحسب خطواته بدقة، بل ان البعض يأخذ عليه المبالغة في الحذر، بما يؤكد ان ما كشفه لم يكن دعسة ناقصة، بل جاء نتيجة مسار يتّبعه منصوري منذ فترة.
في الواقع، ينبغي الفصل بين مصير الودائع وعمل المصارف. بمعنى ان حظوظ الودائع في العودة الى اصحابها لا يمكن ان تكون أفضل اذا استمر تغييب الدور المصرفي عن السوق والاقتصاد. بل العكس قد يكون صحيحاً، اذ بات الجميع على قناعة بأن مصير الودائع مرتبط باستمرارية المصارف، وانّ انهيار القطاع يعني ارتفاع فرص ضياع الودائع بالكامل. وبالتالي، من مصلحة المودعين منع افلاس اي مصرف قبل انجاز الاتفاق على طريقة رد الودائع، وأي خطوة تساهم في صمود المصارف بانتظار الاتفاق ينبغي ان تكون موضع ترحيب من المودعين، ومن كل المهتمين بصمود الاقتصاد في مرحلة الانتظار الطويل التي يفرضها عقم الحكومة والمجلس النيابي، حتى الآن.
بالاضافة الى هذه النقطة المحورية في موضوع مصير الودائع، لا بد من الاشارة الى انّ الاموال التي يريد منصوري ان يتم استخدامها في عودة التسليف هي الفريش دولار. وهناك كمية من هذه الدولارات (مئات ملايين الدولارات) مودعة في المصارف يمكن استخدامها لهذه الغاية. لكن طبعاً، لا تستطيع المصارف استخدام هذه الاموال في التسليف اذا لم يتمّ إصدار قانون من مجلس النواب، يحدّد طريقة ردّ القروض، من خلال حذف امكانية التسديد بالليرة او بأية عملة اخرى غير العملة التي يتمّ فيها منح القرض. وهذا يعني ان منصوري يعرف ان دعوته لا تعني ان المصارف قادرة على التسليف فورا، بل انه يمارس نوعاً من الضغط على المجلس النيابي لدفعه الى اقرار قانون يسمح بعودة التسليف.
امّا بالنسبة الى وضع المصارف، فمن البديهي ان هناك مصارف قادرة اكثر من سواها على التسليف اليوم، قبل بدء خطة التعافي، لكن ذلك لا يؤثر على المشروع. وحتى قبل الأزمة، كان هناك تفاوت كبير في اوضاعها، وهذا التفاوت لم يمنع الاستمرارية لكل القطاع.
أما بالنسبة الى ثقة المواطنين، فإنّ عودة التسليف لا تعني ان المواطن سيعود فورا الى نهج الادّخار في المصرف، لأنّ الثقة تحتاج الى وقت لإعادة تكوينها، وتحتاج الى تغييرات واجراءات مطلوب ان تتخذها الدولة. لكن ما سيجري انّ اموال الفريش قد يتمّ تسليفها الى المؤسسات الخاصة الموثوقة حصراً، وهذا امر بديهي، لأنّ هذه الاموال ليست أموال ادّخار في غالبيتها، بل يتم استخدامها للضرورة او في الاعمال، بما يعني انّ المرحلة الاولى ستكون محصورة في تسليف الاعمال، وليس اي نوع آخر من التسليفات.
خطوة عودة التسليف، لن تتم قبل اقرار قانون يحمي الاقراض، ولكن اذا حصل هذا الامر، فإنه ينطوي على فوائد ليس أقلها استخدام الاموال الموجودة حالياً، والتي قد تتجاوز المبلغ الذي سيمنحه صندوق النقد الدولي الى لبنان، في تحريك الاقتصاد، بما يعود بالفائدة على الجميع. بالاضافة الى امكانية عودة دفع فوائد، ولو متدنية، على الودائع الفريش.
أما مصير الودائع والاقتصاد بشكل عام، لا علاقة له بالتسليف المصرفي، بل هو مرتبط بما ستقرره «الدولة» بشقّيها التشريعي والتنفيذي. ومن يعتقد انه يضغط عندما يرفض عودة المصارف الى أداء وظيفتها في الاقتصاد، قبل الاتفاق على مصير الودائع، فإنه في الواقع يشدّ الحبل اكثر حول عنق المودعين من دون ان يدري.