قبل الدخول في عرض البرنامج المقترح من قبل الحكومة لمعالجة فجوة القطاع المصرفي والذي هو قيد النقاش في مجلس النواب، من المفيد أن نستعرض بإيجاز أسباب الأزمة غير المسبوقة التي يُعاني منها اللبنانيون نتيجة سياساتٍ مالية ونقدية خاطئة تفاقمت حدتها على مدى السنين لتنكشف معالمُها إثر انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.
كان تخلف الدولة عن سداد ديونها قادم لا محالة
لقد أدَّت السياسات المالية التوسعيّة والعجوزات الضخمة المتتالية في الموازنة العامة الى تخطّي الدين العام مستوياتٍ قلَّ نظيرُها في العالم، تجاوز ضعفَي حجم الاقتصاد (الناتج القومي) ما أدّى في آذار 2020 إلى تعثر الدولة عن سداد ديونها المقوَّمة بالعملات الأجنبية. وإن كان هناك وجهات نظر مختلفة عمّا إذا تم التعثر بشكل سليم وفي الوقت المناسب، فيمكن القول بأن التعثر كان ليحصل لا محالة.
ماذا كان على البنك المركزي أن يفعل… ولم يفعل؟
وفي الوقت نفسه كانت السياسة النقدية تجاري السياسات المالية وتتماشى معها، وإن كان بمقدور البنك المركزي أن يتَّخذ موقفاً متميزاً ويجعل من تمويل العجوزات أمراً أكثر صعوبة، خاصة عندما وصلت هذه العجوزات إلى حدود لم يعد من الممكن تحملها. كما أن سياسة تثبيت سعر الصرف- الذي لَمْ يُعَد النظر فيه رغم تحوّل ميزان المدفوعات من إيجابي الى سلبي منذ العام 2011- إضافةً الى الدعم العشوائي للاستهلاك والاستيراد للشرائح الاجتماعية كافةً عبر سعر الصرف غير الواقعي (وهذا مستمر من خلال استعمال سعر صيرفة لأهداف معيشية واجتماعية والتي هي من مسؤولية الوزارات المختصة!)، أدّى ويؤدّي إلى نزيفٍ متواصل في الاحتياطات بالعملات الأجنبية ومنبعُها الرئيسي الودائع المصرفيّة. أما محاولة التعويض عن هذه الخسارات من خلال عمليات مالية غير تقليدية، فقد أثبتت كلفتها وعدم جدواها وها نحن اليوم نعيش تخبطاً وضياعاً وتشوّهات ناتجة عن تعدد أسعار الصرف. وتجدر الإشارة هنا الى أن الهدف الأساسي من تبني مبدأ استقلالية البنوك المركزية تاريخياً كان ولا يزال استبعاد التدخلات السياسية في السياسة النقدية.
المصارف كانت منتشية بالفوائد ولم تحترز كفايةً
من ناحية أخرى كانت المصارف منتشيه بالفوائد العالية وسهولة الاقراض إلى القطاع العام فوضعت مبالغَ طائلة في مصرف لبنان ولم تحترز بالشكل الكافي والمطلوب للمخاطر المحدقة بالوضع المالي والنقدي وهي التي كانت على معرفة بذلك، وان لم تكن كلُّ ودائعها في البنك المركزي بفعل ارادي إذ كان توظيف قسمٍ منها التزاماً بتعاميم مصرف لبنان. ومن المؤسِف أنه كان من الممكن أن تتخِذ جمعية المصارف قراراً موحداً في هذا الخصوص لكنها لم تفعل نظراً للتنافس الحاد بين البنوك ورغبة كل منها بالمحافظة على مودعيها وتحصيل فوائد مرتفعة رغم المخاطر البيِّنة.
وصلنا الى نقطة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي
أمام هذا الواقع المعقد شُكلت الحكومة الحالية وكان من أهم أهدافها معالجة الأزمة المتعددة الأبعاد من خلال الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وقد كُلِّفتُ برئاسة الفريق المفاوض مع الصندوق والمؤلف من وزير المالية، وزير الاقتصاد وحاكم مصرف لبنان وممثل عن رئاسة الجمهورية. وكانت المفاوضات صعبة وشائكة نظراً لحجم المشاكل وتعقيداتها. وقد وافق أعضاء اللجنة على الاتفاق على صعيد الموظفين الذي وُقِّعَ في السابع من نيسان من العام الماضي كما أصدر الرؤساء الثلاثة بياناتٍ تؤيد الاتفاق الذي أُقِرَّ لاحقاً في مجلس الوزراء.
إن البرنامج المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي هو اتفاق شامل ويتضمّن سياسات ماكرو اقتصادية وبنيوية متشعبة، ولكني سأستعرض هنا الشق المتعلق بالجانب المالي دون الدخول في كل التفاصيل التقنية.
الودائع 93 ملياراً، وما بقي من أصول بالعملات 30-35 ملياراً
إن الودائع بالدولار الأميركي في القطاع المصرفي تُقَدَّر بحوالى 93 مليار دولار في نهاية شهر تشرين الثاني. مقابل ذلك يُقدَّر ما تبقّى من أصول بالعملات الأجنبية في القطاع المصرفي (مصرف لبنان والمصارف التجارية) بحوالى 30-35 مليار دولار على أبعد تقدير. وبالتالي فإن الفجوة الموجودة في القطاع المصرفي هي هائلة ولقد قدرناها بحوالى 72 مليار دولار (أكثر من ثلاثة أضعاف ونصف الناتج المحلي لسنة 2022). أما الأرقام النهائية فإنها تنتظر انتهاء التدقيق في حسابات مصرف لبنان والمصارف التجارية، بيد أنّ عدم وجود هذه الأرقام النهائية لا يعني وجوب تأخير البحث بالخطة المطروحة لان هذه الأرقام لن تكون بعيدة عن الأرقام المتوفرة.
فكّ الارتباط بين الميزانيات لا يعني إلغاء الودائع
لقد فَسَّرَ البعض فكّ الارتباط بين ميزانية مصرف لبنان، والمصارف التجارية، وموازنة الدولة في الاتفاق مع الصندوق بأن ذلك يعني إلغاء الودائع. فلا بدَّ لي أن أُكرر بان فكرة فك الارتباط هذه تهدف إلى تسهيل عملية معالجة المشاكل كلّ على حدة ابتداءً من مصرف لبنان.
ضمان 100 ألف دولار وصندوق لاسترداد الودائع
وقد قمنا باقتراح إنشاء صندوق لاسترداد الودائع خلال فترة زمنية قد تقصر وتطول تبعاً لجدَّية القيام بالإصلاحات المطلوبة وتطبيق البرنامج الاقتصادي والمالي الذي أتى مفصلاً في الورقة التي أرسلت إلى مجلس النواب في التاسع من ايلول الماضي ونُشر على الموقع الإلكتروني لرئاسة مجلس الوزراء حتى يتسنى للجميع قراءته. نحن نسعى من خلال هذا الصندوق أن نحقق هدفين أساسيين: الأول هو المحافظة إلى أقصى حد ممكن على حقوق المودعين واسترداد ودائعهم خلال الوقت، والثاني هو السماح للمصارف بأن تعود الى ممارسة دورها الأساسي في تمويل القطاع الخاص بعد إعادة الانتظام لميزانيتهم عبر نقل ما يفوق من الودائع عن سقف المئة ألف دولار اميركي (التي تهدف الخطة إلى حمايتها) الى صندوق استرداد الودائع. قد يستغرق استرداد هذه الودائع بعض الوقت، ولكن بما أن البرنامج يهدف الى حماية أول مائة ألف دولار لكل المودعين خلال فترة أقصر، فإن ذلك يخفف من وطأة الانتظار.
على الدولة إلتزامات… ومساهمتها وفق شروط معينة
أما بالنسبة لمساهمة الدولة في هذا الصندوق، فأنه دون شك، للدولة التزامات وان كانت غير قادرة في الوقت الحاضر أن تفي بها بشكل كامل، غير ان الخطة تَلحظ مساهمةً أولية بـ 2.5 مليار دولار (ما يساوي 12.5% من الناتج المحلي) لمصرف لبنان وذلك ضمن الحفاظ على استدامة الدين العام. ولكن عندما ينخفض الدين العام ويتحسَّن وضع الموازنة- إنما ليس على حساب تخفيض النفقات الاجتماعية والخدمات العامة أو زيادة الضرائب بشكل كبير- من خلال تطبيق البرنامج الاصلاحي بنجاح فعندئذ على الدولة أن تساهم في الصندوق وتقصّر مهلةَ إعادة الودائع.
إدارة القطاع الخاص لأصول الدولة لزيادة إيراداتها
ويمكن للقطاع الخاص أن يدير أصول الدولة بشكل أفضل وأكثر فعالية مما يزيد من إيرادات هذه الأصول وان تعود العائدات للموازنة أولاً، وإذا توفرت الشروط أعلاه يمكن أن يُخصص قسمٌ من هذه العائدات الى صندوق استرداد الودائع. فالموازنة هي في وضع حرج جداً ومن الأولية بمكان أن تؤمن الموازنة علاجاً لمريض ومدرسة لائقة لتلميذ وعيشاً كريماً للعاملين في القطاع العام ولقوى الأمن التي تسهر على السلامة العامة كأولوية قصوى لتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية.
حذارِ من فتح شهية حاملي سندات اليوروبوندز!
أريد أن أشير هنا أيضاً إلى أن أي استخدام لأصول الدولة قبل الانتهاء من المفاوضات مع الدائنين الأجانب وبشكل خاص حاملي اليوروبوند سيفتح شهية هؤلاء الدائنين ليطالبوا بالحصول على مستحقاتهم من هذه الأصول، ما يزيد الأمور تعقيداً ويحرم المودعين من أموال كان يمكن لهم الحصول عليها.
التمييز بين الودائع المؤهلة وغير المؤهلة
الأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هو التمييز بين الودائع المؤهلة وغير المؤهلة. تُعتبر الودائع غير مؤهلة تلك التي حُوِّلت من الليرة اللبنانية الى الدولار الأميركي على سعر الصرف الرسمي أي 1507 ليرات للدولار في وقتٍ كان سعر الصرف الحقيقي قد تجاوز بأضعاف هذا المستوى، عدا أن هذا التحويل كان شبه مستحيل إلا لأفراد معيَّنين تربطهم علاقة ما بالمصرف. أما القسم الثاني من الودائع غير المؤهلة فهي العمليات المصرفية التي بموجبها ضُرِبَت قيمة الدولار «الفريش» بثلاثة أو أربعة أضعاف وأودعت في المصارف. وهنا لا بد من السؤال: هل من المنصف أن نساوي بين هذه الوديعة ووديعة أخرى بنفس المبلغ تمّ جمعها خلال سنين طويلة من العمل الدؤوب والمُضني لتأمين العيش الكريم عند التقاعد مثلاً؟ هذه أسئلة يجب دراستها بعناية حتى نؤمن أكبر قدر ممكن من المساواة بين المودعين. في كل الأحوال تقترح الخطة تحويل الودائع غير المؤهلة الى الليرة ولكن على سعر صرف أقل من سعر السوق مع الأخذ بعين الاعتبار إعفاء الودائع التي تقل عن مبلغ محدد (مئة ألف دولار على سبيل المثال) من هذا الاجراء.
فحص كل وديعة فوق المليون دولار لمعرفة شرعيتها
كما أضفنا إلى البرنامج التمييز بين الودائع المشروعة وغير المشروعة من خلال تحديث بيانات «إعرف عميلك» (KYC) للتدقيق بالودائع التي تفوق المليون دولار، وذلك لمعرفة مصادر هذه الأموال وإذا كانت متأتية من عمليات مشبوهة وفساد كتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرب الضريبي. إن هكذا تدقيق يمكن أن يخفّض من قيمة الودائع بنسبة كبيرة ويسهّل استرداد الودائع الشرعية.
حلول للنقاش ضمن ثوابت… ولا تؤدي لنقض الاتفاق
إن الحلول المطروحة تُشكِّل أقله قاعدة جيدة لمعالجة الفجوة المالية وهي قابلة للنقاش ضمن ثوابت محددة، وضمن الأطر التي لا تؤدي إلى نقض الأسس التي تم الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي. وفي هذا السياق فإن لبنان اليوم أمام خيارين لمعالجة الأزمة التي لم يشهد لبنان أو حتى العالم مثيلاً لها في التاريخ الحديث.
خيار عدم اللجوء الى الصندوق سيكون بنتائج مؤلمة جداً
أول الخيارين، هو أن يقرر المجلس النيابي أنّ لبنان ليس بحاجة إلى صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي وأنه بإمكاننا الاعتماد على أنفسنا، وهذا طبعاً خيار ممثلي الشعب. ولكن هذا يعني أنه لن تأتي أي مساعدات للبنان من المجتمع الدولي ولن يكون هناك مجال لعودة لبنان إلى أسواق المال العالمية في المدى القريب أو المتوسط، وأن المفاوضات مع الدائنين الأجانب ستكون شبه مستحيلة مع إمكانية إقامة الدعاوى على لبنان في المحاكم الأجنبية ما قد يعني بأن الإجراءات التي يجب القيام بها ستكون أكثر قساوة. بالإضافة لذلك، في حال اعتُمد هذا الخيار، فالموازنة العامة ستبقى في حالة حرجة ولمدة طويلة في غياب التمويل اللازم، وإلا فإن تمويل العجوزات سيعتمد على طبع العملة وما لذلك من نتائج سلبية على التضخم وسعر الصرف.
خيار الصندوق يفتح أبواب المساعدات والإستثمارات
أما الخيار الآخر فهو الشروع بتطبيق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يعطي برنامج التصحيح الاقتصادي والمالي المصداقية اللازمة، ويفتح الباب أمام المساعدات الخارجية ويُشَجِّع الاستثمارات الخاصة والتي لبنان بأشد الحاجة إليها ويخفف كذلك من قساوة الإجراءات التصحيحية المطلوبة. ومن الممكن تعديل بعض السياسات الموجودة في هذا الاتفاق بعد إبرام الاتفاق النهائي وعلى ضوء تنفيذ البرنامج، ولكن هذا يقتضي تنفيذ الإجراءات المسبقة بما فيها توحيد سعر الصرف، والانتهاء من التدقيق في الأصول الأجنبية لمصرف لبنان، والبدء بالتدقيق في حسابات أكبر 14 مصرفاً، وإقرار قوانين الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف. إن الاتفاق مع الصندوق هو حاجة لبنانية ولخدمة لبنان وليس حاجة للصندوق. في الختام من المفيد التذكير بأن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على صعيد الموظفين يشكل قاعدة جيدة للبدء بالإصلاح وأن الشروط الموضوعة لا تضر بمصلحة لبنان، وهي ليست أكثر إيلاماً من الشروط التي يجب علينا أن نضعها على أنفسنا إذا قررنا بالفعل انقاذ لبنان من أزمته.
نواب حاولوا مع الصندوق من دون أي نتيجة تذكر
الجميع الآن يقول بأننا بحاجة لصندوق النقد الدولي ولكن نسمع الكثير من السياسيين وبعض المحللين يقولون إنه كان يمكن التخفيض من الإجراءات المطلوبة لو أحسنّا التفاوض. أريد أن أشير هنا الى أن هناك ممثلين عن جميع القطاعات من مصرفية أو قطاع الأعمال، نقابات، وبالطبع نواب ورؤساء لجان وحتى أفراد كانوا قد اجتمعوا مع ممثلي الصندوق قبل الاتفاق وبعده، وكانت هناك محاولات أخيرة مع فريق الصندوق من قبل بعض النواب في واشنطن لإحداث تغيير في الاتفاق، ولكن لم تؤد كل هذه المحاولات إلى أي نتيجة تذكر. وهذا لأننا قمنا بما يجب علينا القيام به بالنيابة عن الجميع، وحَسنَّا الشروط الى أقصى حد ممكن آخذين بعين الاعتبار بعض الاقتراحات والأفكار التي كنا قد سمعناها من الذين استشرناهم واجتمعنا بهم ويمثلون مختلف شرائح المجتمع اللبناني.
تداركوا الأمر قبل ذهاب الوطن الى أوضاع أكثر مأسوية!
كلمة أخيرة: نحن في وضع صعب للغاية والظروف الحالية تتطلب قرارات جريئة وأكاد أقول مصيرية تقتضي الابتعاد عن الشعوبية والمصالح الآنية وتتطلب ان يتمتع صانعو القرار بالجرأة في مواجهة الحقيقة بناء على رؤية واضحة واستشرافٍ للمستقبل. على أكتافنا جميعاً مسؤولية تاريخية وأمامنا تحديات جسام يجب مواجهتها بإرادة صلبة وعزم على الإصلاح لما فيه مصلحة الجميع. الوقت ضاغط جداً وإن التأخير بالإصلاحات المطلوبة سيضر بالدرجة الأولى المودعين ويؤخر عملية النهوض الاقتصادي والخروج من الأزمة. ولا أبالغ إذا قلت إنه إذا لم نتدارك الوضع فان الوطنَ ذاهب الى أوضاع أكثر مأسوية وظروف لا تحمد عقباها.