ينعقد منتدى الدوحة في نسخته الثالثة والعشرين يومَي 6 و7 كانون الأول، حاملاً على عاتقه مهمّة تحليلية واستراتيجية بالغة الأهمية: تشريح أزمة الثقة وتطبيق القانون الدولي التي يعاني منها النظام العالمي الراهن. ويمثل المنتدى هذا العام، بشعاره «ترسيخ العدالة: من الوعود إلى الواقع الملموس»، محاولة احترافية لاستخدام منصة حوار محايدة من أجل إعادة معايرة التوازنات الجيوسياسية والاقتصادية.
I. الأهمية الجيوسياسية للملتقى: غرفة عمليات للديبلوماسية المضطربة
يأتي انعقاد المنتدى في ظل بيئة دولية شديدة التعقيد، ممّا يرفع من قيمته الاستراتيجية إلى مستوى غير مسبوق:
1- استثمار الحياد في الوساطة:
تعتمد الدوحة المنتدى كأداة لتعزيز دورها كوسيط فاعل. إنّ جمع كبار صنّاع القرار من أطراف متناقضة أو متنازعة، يُتيح المجال لما يُعرف بـ«الديبلوماسية غير الرسمية». هذه اللقاءات، التي تتمّ بعيداً من البروتوكولات الرسمية التي تُكبِّل المنظمات الأممية، يمكن أن تُشكِّل مساحة آمنة لتبادل الرسائل الاستكشافية وبلورة تفاهمات أولية حول ملفات إنسانية أو أمنية شائكة، ممّا يُسرّع في عملية التوصل إلى حلول أو تهدئة الصراع.
2- فك اشتباك «الجنوب العالمي»:
تشير الأجندة إلى اهتمام استراتيجي بتأثير تحوّل القوة العالمية على الدول النامية. المنتدى يوفر منصة للقوى الصاعدة (التي تُعبِّر عن «الجنوب العالمي») لطرح رؤيتها البديلة لنظام اقتصادي عادل، وبعيد من هيمنة المؤسسات المالية التقليدية. مناقشة قضايا الديون والتمويل المناخي في هذا السياق، هي عملية إعادة توازن نقدية لمنطق العدالة العالمية، تتجاوز مجرّد المساعدات لتصل إلى إصلاح الهياكل الاقتصادية.
II. التحدّي التكنولوجي كقضية جيوسياسية محورية
يبرز محور حوكمة الذكاء الاصطناعي (AI) كأحد أهم المؤشرات إلى عمق الرؤية الاستراتيجية للمنتدى. فلم يَعُد الذكاء الاصطناعي قضية تقنية، بل هو عامل حاسم في رسم الخرائط الجيوسياسية المستقبلية:
– القوة التكنولوجية الجديدة: إدراج هذا المحور يعكس إدراكاً بأنّ السيطرة على أدوات الذكاء الاصطناعي تعني السيطرة على مستقبل الاقتصاد، المعلومات، وحتى القوّة العسكرية.
– العدالة في الوصول: تهدف النقاشات إلى تفادي سيناريو احتكار هذه التقنيات من قِبل قلة من الدول الكبرى، والعمل على إيجاد آليات حوكمة تضمَن «الوصول العادل» وتُقلِّل من الفجوة التكنولوجية، ممّا يحول دون أن يصبح الذكاء الاصطناعي أداة جديدة للاستقطاب والهيمنة.
III. الخروج من «جمود التصريحات»: التطلُّع إلى مخرجات إجرائية
إنّ الهدف الاستراتيجي من المنتدى ليس إصدار بيان ختامي مليء بالوعود، بل هو التركيز على المخرجات «الإجرائية» و«القابلة للتطبيق».
– البحث عن الإجماع الأدنى: مع وجود نحو 5000 مشارك من 160 دولة، تسعى الدوحة إلى استخلاص «إجماع أدنى عملي» يمكن البناء عليه في العام المقبل، خصوصاً في مجالات تتعلق بتسهيل الحوار الإنساني أو وضع أطر تنظيمية للتقنية.
– مقاربة تحليلية معمقة: إنّ التفاعل بين القادة السياسيِّين ومراكز الفكر (Think Tanks) المشاركة، يضمَن أنّ المقترحات التي ستنبثق عن المنتدى ستكون ذات أساس تحليلي متين، وليست مجرّد ردود أفعال سياسية سريعة.
في الختام، يُنظر إلى منتدى الدوحة 2025 كمرآة تعكس مدى صعوبة مهمّة «ترسيخ العدالة» في عالم تحكمه المصالح المتباينة. يبقى الترقب سيّد الموقف لمعرفة ما إذا كانت هذه المنصة المحايدة ستنجح في تحريك المياه الراكدة للديبلوماسية العالمية نحو حلول عملية.



