في 22 شباط الجاري، أرسل نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي، كتاباً إلى رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، يطلب منه دعوة حاكم مصرف لبنان أو من ينوب عنه، إلى مجلس الوزراء، لتقديم شروحات متعلقة بمشروع «معالجة أوضاع المصارف» والردّ على أي استفسارات «بما أن المشروع أُعدّ أصلاً من قبل مصرف لبنان». يستغرب الشامي الحملة التي طاولته والانتقادات التي وُجهت إليه «من كل حدب صوب» بينما تنصّل من هذا المشروع معدّوه، أي الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، ونائبه سليم شاهين، ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف ميا الدبّاغ.يروي أحد المصرفيين، أن مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف سقط سريعاً لأنه تضمّن كغيره من النسخ، شطباً ضمنياً للودائع (هيركات).
تمّ تحويل «قدسيّة الودائع» إلى سور يُمنع تجاوزه نحو توزيع الخسائر. داخل جدران هذا السور، وقف أركان الحكم متمسّكين بخطاب شعبوي مفاده أن لا توزيع للخسائر يتضمّن شطباً من الأموال المودعة لدى المصارف. وأصحاب المصارف، الذين يَنظر إليهم المجتمع بوصفهم سارقين، روّجوا بأن الدولة سرقت الودائع وأن رياض سلامة فرض عليهم إيداعها لدى مصرف لبنان، ما يعني أنه يترتب على الدولة التعويض على المودعين من المال العام. أما ما يُسمّى «الهيئات الاقتصادية» التي تمثّل كبار أصحاب الرساميل وأصحاب العمل، فهم شاركوا في حفلة الدجل هذه، باعتبارهم مودعين كباراً أو مساهمين في المصارف أو مستفيدين من القروض، في محاولة لانتزاع مكاسب كبرى على حساب المودعين.
في هذا الوقت كان الهيركات «شغّالاً». واللافت أن سور «قدسية الودائع» صَمَدَ منذ لحظة الانهيار حتى اليوم وأصبح الجميع أسرى فيه. ففي هذه الفترة أُعدّت الكثير من صيغ التعامل مع الخسائر تحت عناوين مختلفة مثل «كابيتال كونترول»، «إعادة هيكلة المصارف»، «إعادة التوازن المالي»، إلا أنه لم يُقرّ أيّ منها. غالبية هذه الصيغ التي نوقشت أو جرى تداولها، أعدّها مصرف لبنان أيام الحاكم السابق رياض سلامة بالشراكة مع نوابه الأربعة ومع رئيسة وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف، إلى أن صدرت النسخة الأخيرة من الصيغة تجمع العناوين الثلاثة، على يد منصوري (حين أصبح حاكماً بالإنابة، ونائبه سليم شاهين، ورئيسة لجنة الرقابة على المصارف ميا الدباغ، وبالتعاون مع الشامي.
يُنقل عن الشامي، أن اجتماعاً عُقد لمناقشة مشروع القانون بينه وبين منصوري وشاهين. في الاجتماع، أبدى الشامي ملاحظات أُخذ ببعضها ولم يؤخذ ببعضها الآخر، لكن رغم ذلك هو لا ينفي أن الخطوط العامة لهذا المشروع مطابقة لخطة التعافي الحكومية. لكن ما يسيء الشامي، أنه بمجرّد تحويل مشروع القانون إلى مجلس الوزراء «سُرّب وبدأت تنهال علينا الانتقادات من كل حدب وصوب، بدءاً من جمعية المصارف مروراً بالهيئات الاقتصادية – وما من داعٍ لهذه الأخيرة لاتخاذ هذا الموقف بالنسبة إلى مشروع يتعلق بالمصارف وخاصة أن معالجة أوضاع المصارف تخدم القطاع الخاص – إلى جمعيات المودعين» وفق ما ورد في الكتاب الموجّه من الشامي إلى ميقاتي. وفي هذا الكتاب يوجّه الشامي انتقاداً مباشراً إلى منصوري وشاهين قائلاً: «لا يحقّ للذين شاركوا في إعداد المشروع التنصّل من مسؤولياتهم. لقد سمعنا بأن مصرف لبنان لا يتبنّى المشروع حيث إنه ساعد الحكومة بالشق التقني بصفة مستشار مالي، أو بتعبير آخر، ترجم خطة الحكومة عبر هذا القانون، وكأنه يقول إن لا علاقة له بموضوع معالجة أوضاع المصارف ولا ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، وهذا أمر مستغرب، إذ إن السلطة النقدية هي أول المعنيين بهذا الموضوع، وإذا كانت لديها بدائل أفضل كان يجب التقدّم بها في سياق التحضير لهذا المشروع وصياغته». ولم يكتف الشامي بذلك، بل اتّهم مصرف لبنان بتطبيق «هيركات ضمني» لأن المودعين «اضطروا لسحب ودائعهم بنسب اقتطاع كبيرة تبعاً لتعاميم مصرف لبنان خلال السنوات الأربع الماضية».
انسحاب منصوري وشاهين والدبّاغ من المسؤولية تجاه هذا القانون، مردّه في اعتقاد عدد من المطّلعين، إلى وجود ضغوط من زعامات سياسية فرضت عليهم هذا الإنكار. فعلى سبيل المثال، إن البند المتعلق بإثبات شرعية الوديعة، اعتبره الكثيرون من كبار المودعين ذوي النفوذ في عين التينة، موجّهاً ضدّ «مودعين شيعة عملوا في أفريقيا وهرّبوا أموالهم من هناك ولا يمكنهم تقديم إثباتات على شرعيتها». وهؤلاء ليسوا مجرّد مودعين، بل هم أصحاب شركات ومؤسسات، أو أصحاب مصارف ومساهمون فيها، ولديهم وصول إلى مواقع النفوذ ولوبيات الضغط مثل «الهيئات الاقتصادية» أو لوبيات الضغط السياسي المقرّبة من المرجعيات السياسية مثل الوزراء السابقين في المالية والاتصالات وسواهم. لكنّ ثمة غضباً من نوع مماثل يتعلق بالبنود التي تفرض إثبات شرعية الودائع التي يملكها موظفو القطاع العام. هؤلاء لم يجمعوا ثرواتٍ مجمّدة لدى المصارف من دون دعم وتحاصص مع المرجعيات السياسية. أيضاً هناك أصحاب المصارف الذين هرّبوا الأموال إلى الخارج، هم أيضاً لديهم حساباتهم المرتبطة بجشعهم ورساميلهم وارتباطاتهم الطائفية والسياسية في الوقت نفسه. ثمة الكثير من المسائل التي وردت في القانون والتي أثارت غضباً واستياء عند زعيم أو آخر، وعند فرقهم المحيطة، وعلاقاتهم مع جماهيرهم.
مشكلة الشامي مع هؤلاء، أن مواجهتهم صارت مملّة. فالزعماء أو أزلامهم من أصحاب الرساميل أو من كبار الوزراء والنواب والموظفين، كانوا حاضرين وموافقين على كل النقاشات التي أدّت إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. والتنصّل من هذا الأمر حصل على دفعات. رياض سلامة مثلاً، هو من انطلق أولاً في صياغة مشروع «معالجة أوضاع المصارف»، وعندما تسلّم منصوري محلّه، أضيفت إليه تعديلات أساسية من بينها إقصاء لجنة الرقابة على المصارف عن تحديد المصارف القابلة للحياة وغير القابلة للحياة، وفي المجلس المركزي لمصرف لبنان خلقت «بدعة» «الودائع المؤهلة وغير المؤهلة» التي جرى تكريسها بتعاميم. كل الأفكار الواردة في مشروع القانون جرى تطويرها على أيدي منصوري وشاهين بالاستناد إلى الحسابات التي أجرتها لجنة الرقابة على المصارف، مثل إثبات شرعية الودائع بكل تفاصيلها وشطورها، حتى إن الحسابات المتعلقة بردّ الوديعة ضمن سقف 100 ألف دولار، أو ضمن سقف 36 ألف دولار، أجريت بناءً على حسابات اللجنة وبإشراف شاهين، فيما قام منصوري بتضمين الصياغة القانونية. وهذا ينطبق أيضاً على تفاصيل الـ BAil-in… لماذا لا يتحلّى هؤلاء بالجرأة للدفاع عن مشروعهم؟ هل لأنهم يدركون أن القوانين القائمة مثل القانون 110 تعالج هذه المسائل كلّها، أم لأن الخروج إلى الضوء يتطلّب رضى المصارف والهيئات الاقتصادية والزعامات السياسية؟