كما أطلقت منصة صيرفة فجأة…فجأة توقّفت. يوم أطلقها مصرف لبنان بدايةً في حزيران من العام 2020، كان الصرافون هم قنوات تداول الدولار عبرها، قبل أن يعيد المصرف المركزي إطلاقها في أيار 2021 ويُدخِل المصارف كقناة جديدة ستخطف الأضواء من الصرافين، وتصبح لاعباً وشريكاً أساسياً للمركزي في توزيع الدولارات على المستوردين والتجّار.
ووسط كل ما حدث خلال نحو 3 سنوات، لم يكشف المركزي عمَّن استفاد من دولارات المنصة. ومع استلام نواب الحاكم مسؤولية إدارة الحاكمية، توقّفت صيرفة ولم يعلن أحد تفاصيل توزيع الدولارات عبرها، رغم إقرارهم بعدم شفافية عملها طيلة تلك الفترة. فهل ستحمل المنصة البديلة آلية مختلفة أم أنها ستستر عيوب صيرفة بالآلية نفسها؟.
“صيرفة”: منصة تجارب
ولدت صيرفة كتجربة ليحاول المركزي جمع الدولارات من خلالها. ولأنه يريد قنوات لتنفيذ مهامه، بدأت المهمّة عبر الصرافين ثم مؤسسات تحويل الأموال والمصارف. وبعدم قدرة تلك الجهات على سحب الدولارات من السوق بشكلٍ كافٍ، أدخَلَ سلامة أفراداً يملكون تأثيراً في شوارع عدد من المناطق، وخصوصاً المحسوبة على الثنائي الشيعي، فعمل هؤلاء على “إدارة” صرافة الشارع من خلال جيش الصرافين غير المرخّصين المنتشرين على جوانب الطرقات.
احتاج سلامة المنصة ليؤمِّن الدولار للسوق مِن السوق نفسه بعد تقليص حركة دخول الدولار من الخارج وعبر الاستثمارات بفعل الأزمة الاقتصادية. ولأن المجتمع الدولي لم يرغب بمساعدة المنظومة الحاكمة بإغداق الأموال كما فعل طيلة 30 عاماً، تُرِكَ سلامة ليُدير الدفّة كمُحاسِب للمنظومة التي سقطت ورقتها لدى المجتمع الدولي، وإن لم يكن قد حان أوان التخلّي عنها نهائياً. فأُديرَت صيرفة بآليات التحاصص على شاكلة إدارة دولارات دعم الإستيراد.
ولأن السياسة لا تنفصل عن الاقتصاد، أدرك المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، أن الطقم السياسي الحاكم ومحاسبه رياض سلامة لا يمكنهم الاستمرار. ولأن حرق المراحل ليس ضرورياً، كان لا بد من انتظار نهاية ولاية سلامة بالطريقة القانونية، قبل إجراء بعض الترتيبات. ومن هنا كان المدخل لاستبدال صيرفة بمنصة أخرى، ليدخل السوق تجربة جديدة من المفترض أنها أكثر شفافية.
ورغم تناحرهم السياسي والاقتصادي، يلتقي الفرنسيون مع الأميركيين على ضرورة إجراء تغييرات في النظام الاقتصادي اللبناني، سيّما وأن الاستثمارات الفرنسية في لبنان كبيرة وتحتاج إلى أرضية اقتصادية ونقدية أفضل من الموجودة حالياً. وهذا التلاقي، قد يشكّل غطاءً لنائب الحاكم الأول وسيم منصوري، لإدارة مرحلة جديدة بواسطة منصة مختلفة عن صيرفة، تحظى برضى دولي.
قطيعة مع المرحلة السابقة؟
لأن المحاسبة مؤجَّلة في لبنان، يمتد تاريخ كشف الحقائق لعقود. ولذلك قد لا نعرف خبايا المستفيدين من صيرفة، على الأقل في المدى المنظور. وعليه، فإن المنصة الجديدة ستكون بمثابة طي لصفحة صيرفة والبدء من جديد، حتّى وإن لم تكن المرحلة المقبلة مثالية، وتحديداً لمسألة ضبط سعر الصرف، لأنه مع المنصة الجديدة “سيكون سعر الصرف محرراً”، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي جاسم عجاقة، لـ”المدن”.
يُبدي عجاقة بعض التفاؤل حول شفافية التداول على المنصة الجديدة المنتَظَرة، لأن “لديها بُعداً عالمياً. فهي بمثابة سوق قطع، والمركزي لا يستطيع التدخّل من خلالها بالصيغة التي كان يقوم بها سلامة. ولذلك، سيكون لديها شفافية، وستعمل وفق مبدأ العرض والطلب”. ويتوقّع عجاقة أن لا تكون آلية الحصول على الدولارات مستقبلاً كآلية منصة صيرفة، أي أن يتقدّم المستوردون بطلبات للحصول على الدولارات من مصرف لبنان عن طريق المصارف التي تدرس الطلبات وتحوّلها للمركزي، وإنما “تدخل الشركات بعد تسجيلها على المنصة كمن يسجِّل دخوله إلى البورصة، وتطلب أو تعرض الدولار، بالأسعار التي ترى أنها تناسبها. وبين الطالب والعارِض، تُحدِّد خوارزميات المنصة سعراً مناسباً وموحّداً. ويتغيَّر السعر كلّما تغيّرت أرقام العرض والطلب”. ويمكن للأفراد الاطّلاع على سعر المنصة بشكل طبيعي لأنه سيُعلَن على الملء، وإن لم يتدخّلوا مباشرة في طرح الأسعار التي تناسبهم إلا من خلال الشركات المسجّلة.
الربط مع حقبة صيرفة سيستمر من خلال استمرار السوق السوداء الذي لم يكترث يوماً لصيرفة. فباقتصاد مدَولَر وغارق بالفساد والأموال المشبوهة، فإن “الشكوك في مصادر الأموال ستبقى قائمة، ومن غير الممكن أن تبرز تلك الأموال عبر المنصة”. وهذه الحقيقة تعني بأن “خصائص المنصة الجديدة سترتبط بالواقع اللبناني”. وبالتوازي، يغذّي ذلك الواقع ضرورة التحديد الفوري لسعر الدولار، وهو ما يفتح المجال أمام استمرار السوق السوداء لأن النسخات العالمية من المنصات المشابهة تتضمّن “هامشاً زمنياً بنحو 48 ساعة بين تاريخ تسجيل عمليات العرض والطلب وبين تنفيذها، أي لا يستلم طالب الدولار ماله إلا بعد 48 ساعة من طلبه”. وقد يساعد ذلك في تهدئة سعر الدولار، في ظل غياب امكانية التغيير على المنصة.
لأن الآليات غير محسومة بعد. ولأن اللبناني صاحب مفاجآت كثيرة، ولأن السياسة قادرة على فرض أي جديد، يسير منصوري على أرضٍ زَلِقة عليه الحذر منها. فالسياسة تفرض استقرار سعر الدولار رغم غياب سلامة وصيرفة، وطالِبو الدولار على المنصة سابقاً يحصلون على الدولار من السوق، وهو ما يفترض،نظرياً، ان يرفع من قيمته…لكنه لم يرتفع السعر.