في الأسبوع الأوّل من هذا الشهر، أصدرت وزارة الماليّة القرار رقم 647/1، الذي قضى بتحصيل ضريبة على الأرباح المحقّقة جرّاء عمليّات منصّة صيرفة، وذلك استنادًا على مواد موازنة العام 2024، التي نصّت على هذه الضريبة. ولتحصيل الضريبة، طلبت الوزارة من المصارف التجاريّة تزويدها بداتا هذه العمليّات، التي جرت منذ كانون الأوّل 2021 ولغاية أواخر تمّوز 2023. وبطبيعة الحال، اكتسب القرار مشروعيّة إضافيّة بعدما امتنع المجلس الدستوري عن إبطال مواد الموازنة التي نصّت على هذا الإجراء، ما يعني أنّ تحصيل الضريبة عن تلك الفترات السابقة لا يتعارض مع مواد الدستور.
كان من الطبيعي أن تتحفّظ المصارف على هذا الإجراء، لكونه سيكفل الكشف عن المحظيين الذين استفادوا من أكثر من 24.72 مليار دولار أميركي، من السيولة التي تم بيعها بسعر المنصّة المدعوم. لذا، سرعان ما تذرّعت جمعيّة المصارف بالسريّة المصرفيّة، للتملّص من تقديم الداتا. ورغم أن تعديلات السريّة المصرفيّة التي تم إقرارها سنة 2022 تتيح طلب هذه المعلومات من المصارف، من قبل الإدارة الضريبيّة، اعتبرت الجمعيّة أنّ تنفيذ هذه التعديلات متعذّر اليوم، بغياب المراسيم التطبيقيّة التي تحدّد آليّات طلب المعلومات. وهكذا، ظلّ تحصيل هذه الضريبة متعذّرًا ومعلّقًا، بانتظار تسوية مسألة الداتا، التي لا يمكن من دونها ملاحقة المستفيدين من دولارات منصّة صيرفة.
أرباح مجانيّة بقيمة 3.23 مليار دولار
السؤال الذي يطرح نفسه، يتعلّق تحديدًا بحجم الأرباح التي نتحدّث عنها، والتي نتجت عن بيع الدولارات عبر المنصّة بالسعر المنخفض. كما يتعلّق بحجم العوائد الضريبيّة التي يمكن تحصيلها، بمجرّد تطبيق قرار وزارة الماليّة. ومن المعلوم أنّ مبلغ الـ24.72 مليار دولار أميركي الذي أشرنا إليه يعكس حجم العمليّات الإجمالي، أي حجم الدولارات التي جرى بيعها، وليس حجم الربح الصافي الناتج عن شراء الدولارات.
احتساب الربح الصافي، يتطلّب احتساب الفارق ما بين سعر صرف السوق الفعلي، وسعر المنصّة الذي جرى على أساسه بيعه الدولارات، في كل يوم عمل على حدة. وبشكل عام، هذا الهامش كان يختلف بين يوم وآخر، وفقًا لسعر السوق وسعر المنصّة في كل يوم. هذا الهامش، يمكننا من معرفة الربح المحقق من شراء كل دولار بسعر المنصّة، ومن ثم بيعه في السوق، في كل يوم من أيام التداول.
وبعد ذلك، يمكن عندها احتساب الأرباح الإجماليّة التي جرى تحقيقها في كل يوم عمل، حسب حجم الدولارات التي جرى بيعها في ذلك اليوم لجميع المتعاملين. جميع هذه المعطيات متوفّرة لأي متابع: سعر السوق الفعلي في كل يوم عمل، مقارنة بسعر المنصّة اليومي المُتغيّر، وحجم عمليّات المنصّة اليومي. التحدّي لا يرتبط بتوفّر الأرقام والمعطيات، بل بجمعها من بيانات مصرف لبنان اليوميّة، ومن ثمّ احتساب الأرباح على مدى فترة امتدّت لنحو سنة وثمانية أشهر (من أواخر 2021، إلى أن تم تعليق عمل المنصّة في أواخر تمّوز الماضي).
تقرير “بلوم إنفست” الذي تم نشره يوم أمس الأربعاء، قام بهذه الحِسبة المُضنية. وتوصّل للتالي: باعت المنصّة 131 مليون دولار سنة 2021، و11.86 مليار دولار عام 2022، و12.74 مليار دولار سنة 2023، لغاية يوم تعليق عمليّات المنصّة. حجم تداولات المنصّة الإجمالي هو -كما ذكرنا سابقًا- 24.72 مليار دولار.
وفقًا للفارق اليومي بين سعر المنصّة وسعر السوق الموازية، ووفق حجم العمليّات اليومي، خلص التقرير إلى أنّ المتداولين حصّلوا ما يلي من أرباح على امتداد السنوات الثلاث: 22 مليون دولار عام 2021، و1.74 مليار دولار عام 2022، و1.47 مليار دولار عام 2023.
هذه الأرباح، هي مجموع الفوارق بين سعر السوق المرتفع، والسعر المدعوم الذي تم اعتماده لبيع الدولارات للمتعاملين. أو هو بصورة أوضح: المُضاربة التي جرت بشراء دولار المنصّة المدعوم، ومن ثم بيعه أو استخدامه بالقيمة الفعليّة.
في خلاصة السنوات الثلاث، وزّعت المنصّة أرباحاً مجانيّة للمتداولين بقيمة 3.23 مليار دولار. من حظي بنعمة شراء دولارات المنصّة، وفقًا للاستنسابيّة التي كانت معتمدة في تلك المرحلة، كان له حصّة في تلك الأرباح. وحتّى هذه اللحظة، لم يعثر أحد على منطق اقتصادي أو نقدي يبرّر هذه العمليّات، التي اقتصرت مفاعيلها على ضخ الدولارات لفئات محظيّة، بسعر يقل عن سعر السوق الفعلي، بدل إنشاء آليّة شفّافة لتداول الدولار بيعًا وشراءً.
احتساب الضريبة على الأرباح
تطبيق نسبة الضريبة المنصوص عنها في قرار وزارة الماليّة، أي 17%، على هذه الأرباح، يدفعنا للاستنتاج بأن حجم الضريبة الممكن تحصيلها هو 548.5 مليون دولار.
لكنّ هذا الرقم لا يعكس الحقيقة بصورة واقعيّة. إذ ينص قرار وزارة الماليّة على استثناء عمليّات المنصّة التي قلّت عن 15 ألف دولار، من ضريبة الأرباح، بهدف تحييد موظفي القطاع العام الذين تقاضوا رواتبهم بالدولار بحسب سعر المنصّة. بهذا المعنى، يجب استثناء رواتب موظفي القطاع العام، وما حققته هذه الفئة من أرباح في عمليّات المنصّة، قبل احتساب الضريبة التي تمكن تحصيلها.
حجم رواتب القطاع العام خلال تلك الفترة قارب 5.1 مليار دولار، إذا ما تم تقديرها وفقًا لسعر صرف المنصّة نفسها. وهذا ما يخفّض حجم أرباح عمليّات المنصّة الإجمالي إلى 2.56 مليار دولار، بعد استثناء أرباح موظفي القطاع العام. وفي النتيجة، تصبح قيمة الضريبة التي يمكن تحصيلها، على هذه الأرباح، 435.2 مليون دولار. هذه الأموال، يمكن تحصيلها بكبسة زر، إذا ما زوّدت المصارف وزارة الماليّة بداتا عمليّات المنصّة، وإذا ما لاحقت وزارة الماليّة المستفيدين من أرباح المنصّة لتحصيل الضريبة.
المُلفت للنظر هنا، هو أن أرباح موظفي القطاع العام -جرّاء تقاضي الراتب بالدولار بسعر المنصّة المدعوم- اقتصرت على أقل من 21% من إجمالي الأرباح التي حققتها المنصّة لعملاء المصارف. ما تبقى من أرباح، لم يكن سوى هبات قرّرت المصارف منحها لفئات محظيّة من العملاء، للتمكّن من المضاربة والاستفادة من سعر صرف المنصّة المدعوم. أي بعبارة أخرى، لم يتم تطبيق معيار واضح لتحديد المستفيدين من المنصّة، إلا بالنسبة إلى خُمس العمليّات (عمليّات موظفي القطاع العام).
لكل هذه الأسباب، كانت المنصّة جريمة تم ارتكابها في حقبة معيّنة في تاريخ مصرف لبنان. والجريمة الأكبر، هي استمرار التغاضي عن تحصيل الضريبة، من المستفيدين من أرباح هذه المنصّة، بذرائع السريّة المصرفيّة وعدم وجود “مرسوم تطبيقي” لكيفيّة رفع هذه السريّة. مع الإشارة إلى أنّ وزارة الماليّة تتسلّح أساسًا بنص تشريعي، هو الموازنة، لتحصيل هذه الضريبة، ناهيك عن نص تشريعي آخر، هو تعديلات قانون السريّة المصرفيّة، لطلب هذا الداتا. السؤال عن المرسوم التطبيقي، ليس سوى هروب من تأمين الداتا، لأنّ هناك ما يقتضي التهرّب من الإفصاح عنه، في أسماء المستفيدين.