مِنَ المضحك الانتباه لمفارقةِ أننا نتحضَّر لوداع العام 2023 على وقع تحذيرٍ بالعتمة شبه الشاملة، تماماً كما ودّعنا العام 2022. إذ استقبَلنا العام الجاري بمصدر وحيد لفيول معامل الكهرباء، وهو الفيول العراقي، ونودِّع العام بهذا المصدر. وهذه الخلاصة تعني أن المرحلة الثانية من خطّة وزارة الطاقة التي أعلنها الوزير وليد فيّاض، قد سقطت. فكان متوقّعاً أن تبدأ مؤسسة كهرباء لبنان، في العام 2023 “بتحقيق الاستدامة المالية والخروج من تحت المياه الغارقة فيها”. وبدلَ ذلك، يسبح اللبنانيون في مستنقع العتمة وبواخر الفيول وعقود تنخر خزينة الدولة.
وبانتظار العام 2024 ووعد تأمين مؤسسة الكهرباء “فائضاً مالياً في إيراداتها”، يبقى الثابت المُحَقَّق هو إطفاء المعامل لتوفير مخزونها والتهديد بالعتمة.
بواخر وغرامات بأكثر من 100 مليون دولار
استعجَلَت وزارة الطاقة طلب بواخر الفيول والغاز أويل لمعامل إنتاج الكهرباء، قبل تأمين سلفة الخزينة بنحو 62 مليون دولار. فاستقبلَ اللبنانيون شهر كانون الثاني من العام 2023 ببواخر ترسو قبالة الشاطىء وتسجِّل غرامات تأخير بانتظار تفريغ حمولتها على البرّ. لتستفيد بهذا التأخير بمبلغ يفوق الـ100 مليون دولار، هو عبارة عن قيمة عقود شراء الفيول، يضاف إليها قيمة غرامات التأخير التي تسجِّل 18 ألف دولار عن كل يوم تأخير لكل باخرة من البواخر الثلاث التي تحمل الفيول والغاز أويل. (راجع المدن).
زيادة تكلفة الكهرباء وإزالة العدّادات
أقرَّ مجلس الوزراء سلفة الخزينة، معلناً بذلك فتح الطريق أمام تفريغ حمولة البواخر ورفد معامل الإنتاج بها. وفي متن إقرار السلفة، مَرَّ مبلغ 54 مليون دولار “لتسديد مستحقات عقود التشغيل والصيانة ومصاريف قطاعات الإنتاج والتوزيع”، وهو ما استفادت منه شركات مقدّمي الخدمات التي تعيش كالفطر على جذع مؤسسة الكهرباء. (راجع المدن).
واللافت للنظر أن السلفة أُقِرَّت وسط عدم التأكُّد من قدرة المؤسسة على سدادها، وهو أمر يخالف قانون المحاسبة العمومية. علماً أن المدير العام للمؤسسة كمال حايك، اعترف ضمنياً بعدم قدرة المؤسسة على إعادة السلفة، قائلاً أنه “لا يمكن لمؤسسة كهرباء لبنان التعهد بشيء لا يمكن تنفيذه”. (راجع المدن).
خرج الفيول إلى المعامل وزاد إنتاج الطاقة بنحو 4 ساعات يومياً، وحفَّزَ ذلك وزارة الطاقة على رفع التعرفة فجاءت الفواتير الصادرة عن شهرين متتاليين بمجموع يتراوح بين 4 و10 ملايين ليرة، أي ما يفوق أضعاف الرواتب الشهرية لمعظم اللبنانيين حينها. (راجع المدن).
توالَت الزيادات في الفواتير التي تضمَّنَت ضرائب ورسوماً غير محقّة وزيادات فرضها مصرف لبنان على مؤسسة الكهرباء لتأمين تبديل إيراداتها بالليرة بالدولار، فحمَّلت الوزارة تلك الأكلاف للمشتركين. وفي ظلّ عدم تناسب كلفة الكهرباء مع عدد ساعات التغذية، تصبح الفاتورة أعلى من فاتورة المولّدات الخاصة التي تؤمِّن التغذية بمعدّل يتراوح بين 20 و24 ساعة. الأمر الذي دفع الكثير من المشتركين إلى إزالة عدّادات مؤسسة الكهرباء أو تعليق العمل بها لمدة سنتين قابلة للتجديد. (راجع المدن).
فواتير مضخَّمة ومدولرة وأختام بالشمع الأحمر
زيادة تعرفة الكهرباء وكثرة الرسوم وطريقة احتساب الفواتير وفق دولار منصّة صيرفة، ثمّ موافقة هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل على إصدار فواتير الكهرباء بالدولار وترك الحرية للمشتركين لاختيار عملة الدفع، بالليرة أو الدولار، زاد من حالة الفوضى في عملية قراءة العدادات وتنظيم الفواتير وإصدارها، فخرجت من رحم شركات مقدّمي الخدمات، فواتير بأرقام مضخَّمة ومُبالَغ بها، استدعت مراجعات لتصحيح الأخطاء وتبادل الاتهامات بالتقصير بين موظّفي مقدّمي الخدمات وكهرباء لبنان. (راجع المدن).
الفواتير المضخَّمة والأخرى المشكوك بأنها مزوّرة وأحداث أخرى، تمخَّضَ عنها بشكل مفاجىء قرار للنائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، بختم شركة KVA بالشمع الأحمر، وهي إحدى شركات مقدّمي الخدمات. وذلك على خلفية “التلاعب بالعدّادات، وجملة من الأسباب تأتي تحت عنوان تقصير الشركة وعدم التزامها بتعهّداتها”. لكن الشمع سرعان ما ذاب وفُتِحَت أبواب الشركة ووُضِعَ الملفّ جانباً. (راجع المدن).
افتتاح العام بمعامل تكاد تفرغ من الفيول واختتامه بالمِحنة نفسها، والتهديد بالعتمة الشاملة ما لم يُبَتّ أمر الإتيان بالفيول سريعاً وكيفما اتَّفَق، على حساب المال العام، هو أمر يصحّ فيها قول الفيلسوف كارل ماركس بأن “التاريخ يعيد نفسه في المرّة الأولى على شكل مأساة، وفي الثانية على شكل مهزلة”. لكن ما لم يُكتَب لماركس أن يشهده هو إعادة تاريخ الكهرباء لنفسه مراراً، وبالمعطيات نفسها، حتّى باتت “المهزلة” كلمة لا تصف الواقع بدقّة.
وها هما مؤسسة كهرباء لبنان ووزارة الطاقة يضعان اللبنانيين أمام موعدين وخيارين، إما استمرار العتمة شبه الشاملة حتى تاريخ 28 كانون الأول الجاري، أو العتمة الشاملة بدءاً من تاريخ 3 كانون الثاني 2024.