تقلّصت كثيراً مساحة الوقت التي تفصل عن صدور الموازنة من دون أن تتّضح بعد وجهة نظر خفض العجز فيها إذا كانت من خلال خفض إضافي للنفقات أو اقتطاع الرواتب أو زيادة الإيرادات أو مساهمة المصارف، الأهم من كل ذلك هل نجحت الحكومة في تخفيض العجز كما طلبت القوى المانحة وهل تفادى لبنان من خلال مشروع موازنة 2019 قطوع اليونان؟
باعتقاد سياسيين واقتصاديين أن مشروع الموازنة هو أفضل الممكن والمتاح حالياً للإصلاحات المالية والاقتصادية لخفض العجز في ظلّ الهبات الاحتجاجية ضد إجراءات الاقتطاع من الرواتب.
مقارنة الوضع بين لبنان واليونان التي مرّت بظروف مماثلة تبدو متشابهة ومتباعدة في وقت واحد، أوجه الشبه هي في الظروف التي أوصلت اليونان إلى التدهوّر والإفلاس وهي الظروف نفسها القائمة في لبنان، من الهدر في مؤسسات الدولة وارتفاع الفوائد على الدين العام والتهرّب الضريبي والفساد في إدارات الدولة والتوظيف العشوائي …
الاختلاف يظهر أيضاً في التفاصيل التي أدّت إلى الانهيار، مقارنة أرقام العجز في موازنة اليونان وصلت إلى 13 بالمئة وتجاوزت الـ11 بالمئة في لبنان، النمو الاقتصادي بدأ بالتباطؤ والتراجع في اليونان فيما تراجع النمو الاقتصادي لبنانياً لكنه لم يصل إلى مستوى الهاوية اليونانية، ونسبة التضخّم لامست أضعاف النسبة المسجّلة لبنانياً بسبب تراكم الديون فيما لبنان لا يزال في مرحلة تفادي النقطة الأخيرة، وبلغ فارق الدين العام في اليونان 313 مليار يورو في مرحلة الأزمة فيما الدين العام اللبناني في الأزمة 66 مليار دولار.
خرجت اليونان من أزمتها بموازنة تقشّفية مقرونة بمكافحة فساد شاملة ومعطوفة على مساعدات أوروبية بعد أن طبّقت المشورات الأوروبية ولم تتخلّص من أزمتها الخانقة إلا بإصلاحات اقتصادية وخيارات صعبة حركّت التظاهرات في الشارع والحال نفسها تتكرّر في لبنان، لكن الانتقادات واسعة للإصلاحات الواردة في مشروع الموازنة التي يصفها البعض بأشباه إصلاحات فلم تلحظ الموازنة سبل وقف التهرّب الضريبي ومعالجة ملف الأملاك البحرية والتوظيف العشوائي الذي حصل في السنوات الماضية ، جلّ ما أنجز إجراءات تقشّفية تؤمّن رقماً يتمّ احتسابه لتقديمه إلى الدول المانحة في “سيدر” لتسيل الأموال، أما الإصلاحات الفعلية فلم تتجرأ الحكومة على الاقتراب منها.
لم تخلُ الموازنة برأي المنتقدين من حيل ضريبية إذ تتضمّن إجراءات ضرائبية غير متساوية بين المكلّفين وإعفاءات تفسح المجال لهروب الشركات الكبرى من الإعفاءات، وعليه يؤكّد الخبراء أن الموازنة ليست بحجم المشكلة الكبيرة القائمة في البلاد لكنها المخرج الوحيد المتاح للأزمة والحصول على المساعدة الدولية.
موازنة 2019 بدون شك موازنة متقدّمة عن موازنة 2018 لكنها لا تصل إلى المستويات المطلوبة فالبنود الإصلاحية متواضعة وجرى الالتزام بسقوف معيّنة تفادياً للاصطدام مع الرأي العام والشارع، الموازنة بنظر المنتقدين وُضعت لتأجيل المشكلة بدل معالجتها جذريا.
مع ذلك ثمّة من يعطي نظرة متفاءلة أن موازنة 2019 سوف ترسم طريقاً إصلاحياً مقبولة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية وأنه جرى ترميم السفينة اللبنانية رغم وجود ثقوب كبيرة فيها لإبقائها تحت السيطرة والمسار الصحيح.