لم تكد الموازنة تقرّ في الهيئة العامة لمجلس النواب، حتى شهدنا فصولاً من تهديدات الذين حصلوا على موافقات لاستيراد السلع المدعومة بأن يلجأوا إلى تجويع المواطنين ما لم تُعدّل المواد التي تطاولهم. ما زال سيف التجار والمحتكرين وكارتيلات السلع الغذائية والدوائية والنفطية مصلتاً حتى تحقيق تشريع نهبهم لمليارات من أموال الدعم. في المقابل، تتبيّن بوضوح فظاعة حجم الضرائب والرسوم التي تمثّل أكثر من 70% إلى 80% من واردات الموازنة والتي ستطاول الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وخصوصاً أصحاب الدخل المحدود، وفي مقدّمتهم الموظفون الإداريون والأساتذة والمعلمون والمتعاقدون والأجراء، وخصوصاً المتقاعدين المدنيين على اختلاف فئاتهم والعسكريين. لكن الموازنة لم تطرح أي مشروع للإنفاق على تطوير القطاع العام وتفعيل مؤسّساته أو على البنى التحتية وتحسين الخدمات أو على مشاريع استثمارية وتنموية.أصابت الموازنة الموظفين والمعلمين والقوى الأمنية والعسكرية والمتعاقدين والأجراء والمتقاعدين المدنيين على اختلاف فئاتهم والمتقاعدين العسكريين على اختلاف رتبهم، من خلال الحقائق الآتية:
– لم تلحظ أيّ اعتمادات مخصّصة للنهوض بالقطاع العام ومؤسّساته، بل إن الاعتمادات المخصّصة للوزارات كانت فاضحة. ولا تطرح خطة لتشكيل هيئات كفوءة لإدارة المرافق العامة والخدماتية والنهوض بها.
– لم تلحظ أيّ اعتمادات لتصحيح الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية للعاملين في القطاع العام.
– أبقت الرواتب والمعاشات التقاعدية محتسبة على أساس دولار يساوي 1500 ليرة، بينما فرضت عليهم رسوماً وضرائب على أساس دولار 89500 ليرة.
– تمت مضاعفة الضرائب والرسوم الجديدة بين 12 و46 ضعفاً.
– لم تلحظ الموازنة أيّ خطة للإنقاذ المالي والنقدي ولا لهيكلة المصارف والدين العام.
– أعفت الموازنة أصحاب الرساميل والشركات والمصارف والكارتيلات على أنواعها، وهم الأكثر قدرة، من الضرائب التي تركّزت على مداخيل الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.
– ارتفاع الدولار 60 ضعفاً، بينما لم ترتفع الرواتب والمعاشات التقاعدية سوى سبعة أضعاف لمن هم في الخدمة، وستة أضعاف للمتقاعدين (بقيت نسبتها أقل من 10% عما كانت عليه عشية 2019)، وبقي المتعاقدون والأجراء على واقعهم المرير المعروف. وبذلك تبقى نسبة تراجع القدرة الشرائية للرواتب والمعاشات التقاعدية 53 ضعفاً والمطلوب منهم الاستمرار بالحياة وفق هذا الواقع. والأنكى من ذلك كله، أنه بالرواتب الزهيدة التي لا تكفي لتغطية باب واحد من أبواب النفقات والخدمات المتعدّدة، عليهم تسديد هذا الكمّ الهائل من الرسوم والضرائب، علماً أن الحكومة والمجلس النيابي يعترفان بهذا الواقع من دون أن يرفّ لهما جفن، ويقرّان الموازنة مع درايتهما الكاملة بحجم الكارثة التي حلّت بكل العاملين في القطاع العام والمتقاعدين المدنيين والعسكريين والمتعاقدين.
ثمة سؤال يطرح في هذا السياق: كيف ستصبح أحوال هؤلاء بعد إقرار موازنة الضرائب والرسوم التي تعدّ جريمة ضدّ الأكثرية الساحقة من اللبنانيين؟ الحكومة والمجلس النيابي مجتمعين يتحمّلان كامل المسؤولية عن هذا التردّي. ولم تعد ذرائع السلطة تنطلي على أحد بعدم توافر الإمكانات والموارد، ولا التلطّي خلف مقولة عجز الخزينة واعتماد سياسة الهروب إلى الأمام ودفن الرؤوس في الرمال. فبدلاً من تصحيح الأجور وفق مؤشر الغلاء والتضخّم، تعتمد السلطة سياسة التلاعب بالقطاعات فتعطي مرّة حوافز باهته لقطاع، ومرّة تطرح وعداً واهياً ببدل إنتاجية لقطاع آخر، ومرّة تُقرّ بعض الدولارات لثالث، وبدل نقل لآخرين، ومجموع ما تعطيه لا يمثّل أكثر من 5% من قيمة الرواتب في عام 2019.
إذا سألت الحكومة عن مصادر التمويل، فإننا نجيبها بكل جرأة وموضوعية، أن بإمكانها جبايتها من بعض المصادر، وهي على سبيل المثال:
– استرجاع أموال الهندسات المالية التي ذهبت إلى جيوب أصحاب المصارف والتي توازي ستة مليارات.
– استعادة الأموال المهرّبة والمنهوبة التي تقدّر بعشرات المليارات، وهي في الأساس أموال المودعين. عمليات تحويل هذه الأموال إلى الخارج مفنّدة في سجلات المصرف المركزي.
– استعادة الأملاك البحرية والنهرية واستثمارها وفق الأسعار الرائجة بدل ما أقرّته الموازنة بما لا يتجاوز 10% من الأكلاف الحقيقية، وبعضها مستثمر ممّن هم في السلطة.
– استعادة الأموال المنهوبة من سياسة الدعم والتي تقدّر بالمليارات وكشفها سهل إذا أرادت الحكومة.
– استعادة الفوائد الخيالية التي استفاد منها كبار المتموّلين والمصارف ومجالس إدارتها والتي تجاوزت في كثير من الأوقات 43% وكشوفاتها واضحة ومسجّلة.
– ضبط جباية الضرائب ومنع التهرب الضريبي وزيادة الضرائب على أرباح الشركات والمصارف وكبار التجار والمستوردين واعتماد سياسة إعفاء ذوي الدخل المحدود من الضرائب والرسوم على الخدمات.
ممّا تقدم، كل تحرّك وإضراب واعتصام وتظاهر أو تعطيل للمرافق العامة، وغيرها من الخطوات التصعيدية التي ينفذها قطاع من هذه القطاعات المتضرّرة بمفرده أو بالاشتراك مع آخرين، يعدّ تحرّكاً مشروعاً ومطلوباً لمنع مزيد من الإفقار والتجويع والذل.
ومواكبة للإضراب المفتوح لموظفي الإدارة العامة وتعاونية موظفي الدولة والمساعدين القضائيين وتهديد الأساتذة والمعلمين والمتعاقدين بالإضراب والتظاهر والاعتصام وتهديد المتقاعدين المدنيين والعسكريين بالنزول إلى الشارع، بما ستشكّل هذه التحرّكات كرة ثلج متدحرجة قد نعرف بدايتها ولكن لا أحد يعلم نتيجتها، واستباقاً لأيّ إقرار لزيادات هزيلة (مثل طرح رئيس الحكومة إقرار ثلاثة رواتب للجميع على الرواتب والمعاشات التقاعدية)، لا بد من تثبيت الحدّ الأدنى للمطالب الأساسية التي لا يمكن التنازل عنها، آخذين بالاعتبار الذرائع والحجج التي قد تعتمدها الحكومة للتهرب من إقرارها عبر أولويات يفترض تنفيذها هذه السنة:
أولاً: تصحيح الرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية للجميع، تدريجياً ومن دون أيّ تمايز أو تمييز بين أيّ قطاع أو آخر، وصولاً إلى ما كانت عليه قبل 2019 وفق القاعدة الآتية: إقرار زيادة للعام 2024 تساوي بين 40% و50% من القيمة الشرائية للرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية وأجور ساعات التعاقد، على ألا تقلّ عن عشرة رواتب (أي احتساب أساس راتب عام 2019 على دولار يساوي 40 ألفاً بدلاً من 1500 ليرة).
ثانياً: إدخال الزيادة الجديدة والمساعدتين الاجتماعيتين والتعويض المؤقّت، في صلب الراتب، واحتسابها في المعاش التقاعدي وتعويض نهاية الخدمة.
ثالثاً: تقسيط باقي الفرق المتبقّي من نسب الزيادات خلال النصف الثاني من السنة.
رابعاً: إقرار بدل نقل عادل وفق معيار موحّد للجميع، بما يمكّن الموظفين والأساتذة والمعلمين والمتعاقدين والأجراء والعسكريين من الالتحاق بمراكز عملهم والعودة منها.
ختاماً، ومع استنفاد جميع الوسائل وعدم استجابة الحكومة لأسابيع متتالية للمطالب والحقوق، وفي حال عدم إقرار هذه الحقوق في أول جلسة تعقدها، فلم يبقَ لجميع الذين تآكلت رواتبهم ومعاشاتهم التقاعدية إلا النزول إلى الشارع يداً واحدة مع المتضرّرين من الضرائب والرسوم المفروضة في الموازنة، للاعتصام والتظاهر وتنفيذ أشكال أخرى من التحرّكات الموجعة التي ستعلن لاحقاً دفاعاً عن كرامتهم الإنسانية وعن لقمة عيش أطفالهم ومصالحهم وحقوقهم المشروعة.