لم يشهد لبنان نقاشاً حول موازنة كتلك التي يشهدها اليوم، ليصح القول أن موازنة العام 2019 ستكون “موازنة تاريخية” تؤسس للمستقبل، بما تحمله من إصلاحات ضرورية فرضها التقشف، بعد أن فعلت مآثر الترف والهدر والفساد فعلها بمالية الدولة، عجزاً مستداماً.
تستأهل هذه الموازنة كل الضجيج السياسي والصخب الشعبي حولها، فهي تأتي بعد زمن من غياب الموازنات، وتخوض في مهمة شاقة لتصحيح أوضاع البلد المالية، وإعادته إلى سكة السلام، بدل الاستسلام لـ”شعبوية” لا تنقذ البلد، أو “الاتكال” على الخارج الذي تغير، وبات “يتكل” على همة اللبنانيين في إنقاذ بلدهم، كي يمدهم بما تيسر من مقومات للصمود والنهوض، كما هي الحال مع تقديمات مؤتمر “سيدر” التي ما زالت تنتظر “فيزا” الموازنة الاصلاحية، للدخول إلى لبنان، إلا إذ قرر لبنان إضاعة هذه “الفرصة الذهبية” التي لن تتكرر في المستقبل القريب، وبالتالي فقدان ثقة المجتمع الدولي والعربي بأنه راشد وقادر على تحقيق الاستقامة الاقتصادية.
لا مفر من وحدة اللبنانيين لمواجهة التحديات المالية الكبيرة والتصدي لها، والقيام بإصلاحات تضبط الهدر وتكافح الفساد، وإن تأخرت، لكنها أتت. ولعل ما يُسجل لهذه الحكومة ولا يُسجل عليها، أنها لا تدير “الأذن الطرشاء” لشعبها، بل تسمع كلمته وملاحظاته وانتقاداته التي يقولها في التحركات الاعتراضية التي تكفلها كـ”حق ديموقراطي”، وفي كل اللقاءات التي تعقدها القطاعات والاتحاد العمالي العام والمصارف مع رئيسي الجمهورية والحكومة والوزراء المعنيين، وتأخذها بعين الاعتبار، في محاولة منها لإمساك عصا الموازنة من الوسط، ووضعها في “ميزان الجوهرجي”، لتكون بـ”سلة واحدة”، عادلة تجاه شعبها، وشفافة في تخفيض العجز الى ما دون 9 في المئة، وآمنة لعبور تقديمات “سيدر”، وحازمة في مكافحة الهدر ومحاربة الفساد، على طريق استعادة ثقة اللبنانيين المفقودة بدولتهم ومؤسساتها.
وما يُسجل لهذه الموازنة، عدا عن كونها موازنة “تاريخية” و”إصلاحية”، أنها “موازنة توافقية”، يتشارك في إقرارها الجميع، ويقع على عاتق الجميع مسؤولية تعبيد الطريق أمامها، بعيداً عن أي “شعبوية” أو “مزايدات” لا أفق لها، وهذا ما يبدو واضحاً في الحكمة التي يقارب بها رئيس الجمهورية ميشال عون الملف، والجهود التي يبذلها رئيس الحكومة سعد الحريري وكل الوزراء، ولا سيما وزير المال علي حسن خليل، لبناء موازنة متوازنة، والحوار مع الفئات المعترضة، واستيعاب الواقع تحت سقف انقاذ البلد، كي لا يقع على رؤوس الجميع، بالتوازي مع المواقف المسؤولة لرئيس مجلس النواب نبيه بري وغالبية القيادات السياسية.
إذاً، “ما بحك جلدك إلا ظفرك”، والتقشف اليوم وإن لم يكن قراراً شعبياً، إلا أنه قرار لا بد منه من أجل تمرير هذه المرحلة الصعبة، والتأسيس لواقع أن هذا البلد لا يمكن أن يستمر على ما كان عليه، وأن الحاجة أكثر من ماسة لتلقف هذه الفرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومد البلد بمقومات الصمود، والذهاب أبعد من ذلك، إلى وضع الخطط المستقبلية، المستندة إلى رؤى واضحة، لوضع البلد على سكة النهوض الصحيحة، ولا سيما بعد إقرار خطة الكهرباء.
يبقى أن لهذه الموازنة أبعاداً عنوانها الثقة، محلياً وخارجياً، ثقة اللبنانيين بقدرة دولتهم على إنقاذ واقعها المالي، والحفاظ على مصالحهم وأرزاقهم، وثقة المجتمع العربي والدولي بلبنان، وكلاهما بمثابة امتحان للبنان واللبنانيين، و”عند الامتحان يكرم المرء أو يهان”.