موقع مرفأ بيروت الاستراتيجي يجعله صلة الوصل في «الحزام الصيني و«التنمية» العراقي

« اطلق الرئيس الصيني XI JINPING في العام 2013 مبادرة «الحزام والطريق» والتي تهدف الى ربط الصين بافريقيا واسيا واوروبا عبر شبكات من الموانئ البحرية والطرق البرية والسكك الحديدية والمناطق الصناعية، وتغطي هذه المبادرة 66 دولة في القارات الثلاث وتبلغ كلفتها مئات مليارات الدولارات. كما اطلق العراق مشروع «طريق التنمية» في شهر ايار (مايو) الماضي والذي يهدف الى ربط ميناء الفاو في جنوب العراق بحدود تركيا عبر شبكات من الطرق البرية والسكك الحديدية بتكلفة اجمالية تقدر بـ 17 مليار دولار. وسيحول هذا المشروع العراق الى مركز عبور باختصار وقت السفر بين اسيا واوروبا عبر تركيا».

وكان وزير النقل العراقي رزاق محيبس عجيمي السعداوي قد زار لبنان في الاسبوع الاول من شهر حزيران (يونيو) الجاري، حيث اجتمع مع نظيره اللبناني علي حمية الذي جدد شكره للحكومة العراقية على «ادراج لبنان رسميا ضمن خطوط الترانزيت للشاحنات اللبنانية المحملة بالبضائع، عبر الاراضي العراقية والمتوجهة الى باقي الدول الخليجية وغيرها من الدول المجاورة للعراق»، مثمنا «دعوة لبنان للمشاركة في عملية التخطيط والتصميم والدراسات لمشروع «طريق التنمية الذي ينطلق من ميناء الفاو في العراق وصولا الى معبر خابور على الحدود مع تركيا ومنها الى اوروبا، ويتفرع منه طريق اخر باتجاه سوريا وصولا الى لبنان على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط».

وفي هذا الصدد تحدث النائب الاول لرئيس الاتحاد العربي لغرف الملاحة البحرية والرئيس السابق للغرفة الدولية للملاحة في بيروت ايلي زخور عن المراحل التاريخية التي مر بها المرفأ واهميته الستراتيجية فيقول :

من المعروف ان مرفأ بيروت يشكل مركز التقاء للقارات الثلاث اسيا واوروبا وافريقيا، ويتمتع بموقع استراتيجي مميز، وبالتالي سيكون حتما مرتبطا بمبادرة «الحزام والطريق» الصينية ومشروع «طريق التنمية» العراقي.

ولابد من الاشارة الى ان مرفأ بيروت المتجذر في منطقة شرق المتوسط، بناه الفينيقيون في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد ادرك كل الغزاة الذين استولوا على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، الموقع الاستراتيجي المهم لمرفأ بيروت، من الرومان مرورا بالفتح الاسلامي العربي والعثماني، وصولا الى الفرنسيين، لذلك عمدوا الى تحويله الى قاعدة بحرية لاساطيلهم الحربية.

وجعل العثمانيون مرفأ بيروت مركزا تجاريا مركزيا لهم في شرق المتوسط. وفي العام 1887 صدرت ارادة سلطانية نال بموجبها يوسف افندي المطران امتياز مشروع لتطوير وتحسين مرفأ بيروت لمدة 60 عاما تنتهي في العام 1947، وفي العام 1888 تألفت الشركة العثمانية لادارة مرفأ بيروت تحت اسم « شركة مرفأ بيروت وارصفته ومخازنه». وفي العام 1894 انتهت اعمال تطوير وتحسين مرفأ بيروت.

وعندما نال لبنان استقلاله في العام 1943، تحولت الشركة الفرنسية لمرفأ بيروت ومخازنه الى شركة لبنانية تحت اسم «Compagnie de gestion et d’exploitation du Port de Beyrouth»

وقد منحت الدولة اللبنانية هذه الشركة امتيازاً لاستثمار مرفأ بيروت لمدة 30 عاما، وقامت هذه الشركة ببناء الحوض الثالث والرصيف رقم 14 من الحوض الخامس، وتطويل مكسر الموج «Break water» لتأمين الحماية الكاملة للمرفأ من الاحوال الجوية والبحرية السيئة.

وعندما شنت اسرائيل عدوانها على مصر في العام 1967 واحتلت الضفة الشرقية لقناة السويس، اغلقت القناة امام الملاحة البحرية، وتحول مرفأ بيروت الى مركز محوري للبضائع المستوردة من الدول الاوروبية واميركا الشمالية الى العمق العربي. فكانت البواخر تفرغ هذه البضائع في مستودعاته وعلى ارصفته ومن ثم يعاد تحميلها على الشاحنات التي تقوم بنقلها برا عبر الاراضي السورية الى مقصدها النهائي في الاردن العراق والسعودية ودول الخليج العربي. وقد اطلق على مرفأ بيروت اسم «مرفأ العرب» لانه الاقرب جغرافيا الى بعض العواصم العربية كدمشق وعمان وبغداد من المرافئ الموجودة في كل من سوريا والاردن والعراق.

اندثار العصر الذهبي لمرفأ بيروت

وفي العام ذاته (1975) اندلعت الحرب «الاهلية» اللبنانية التي استمرت حتى العام 1990، فاندثر بذلك العصر الذهبي لمرفأ بيروت الذي دمر واحرق واغلق امام الملاحة البحرية.

وفي العام 1990، وبعد ان وضعت الحرب اللبنانية اوزارها، اعيد فتح مرفأ بيروت امام الملاحة البحرية، وحصلت الدولة اللبنانية على قروض ميسرة من البنك الاوروبي للاستثمار وبعض الصناديق العربية لاعادة اعمار مرفأ بيروت وبناء محطة الحاويات في الحوض الخامس.

وفي العام 1998 فازت شركة «سلطة موانئ دبي» Dubai Port Authority (DPA) بمناقصة لتجهيز وتشغيل محطة الحاويات لمدة 20 عاما وفق نظام الـ (B.O.T) (Build, operate, transfer) على ان ينجز مشروع التجهيز وتبدأ المحطة بتقديم خدماتها في العام 2001.

وكانت تقضي خطة سلطة موانئ دبي اعتماد مرفأ بيروت في البحر المتوسط كمركز لاستقبال البواخر القادمة من القارة الاوروبية حيث يتم تفريغ الحاويات في مرفأ بيروت والتي يعاد نقلها برا الى مقصدها النهائي في الدول العربية (الاردن، العراق، والخليج العربي)، ومن مرافئ دبي بحرا الى مقصدها في شبه القارة الهندية والشرق الاقصى.

كما كانت تقضي خطة سلطة موانئ دبي اعتماد مرفأ دبي في البحر الاحمر مركزا لبواخر الحاويات القادمة من الشرق الاقصى وشبه القارة الهندية حيث يتم تفريغ الحاويات في مرفأ دبي ويعاد نقلها برا الى مرفأ بيروت ومن ثم يعاد شحنها على بواخر الحاويات الى مقصدها النهائي في اوروبا.

فجأة ومن دون سابق انذار، اعلن الرئيس نجيب ميقاتي الذي كان حينها وزيراً للاشغال العامة والنقل ان لبنان فسخ عقد تجهيز وتشغيل وادارة محطة الحاويات مع سلطة موانئ دبي، من دون ان يكشف اسباب هذا الفسخ.

فوز كونسورتيوم بحري بمناقصة لادارة وتشغيل محطة الحاويات حتى العام 2022

وبناء على المطالبة المستمرة والحاح من الغرفة الدولية للملاحة ببيروت، وافقت الدولة على اجراء مناقصة جديدة لتشغيل محطة الحاويات، على ان تقوم ادارة مرفأ بيروت بتجهيزها من واردات المرفأ الذاتية.

وفي العام 2004، اجريت المناقصة وفاز بها كونسورتيوم بحري يضم ثلاث شركات: بريطانية واميركية ولبنانية Beirut Container Terminal Consortium (BCTC) التي تولت ادارة وتشغيل محطة الحاويات حتى الربع الاول من العام 2022.

واجريت مناقصة جديدة في شهر شباط (فبراير) من العام 2022، وفازت بها شركة CMA Beirut Container التابعة للمجموعة الملاحية الفرنسية CMACGM التي تحتل المرتبة الثالثة في العالم باسطولها التجاري الذي يؤمن الشحن البحري بسفن الحاويات من معظم المرافئ العالمية.

وشهدت محطة الحاويات نشاطا مزدهرا خلال ادارتها وتشغيلها من قبل شركة BCTC حيث ارتفعت حركة الحاويات فيها بعد بدء تشغيلها في العام 2005 من 390 الف حاوية نمطية في العام 2004 الى 1.305 مليون حاوية نمطية في العام 2018 و 1.229 مليون حاوية نمطية في العام 2019، كما تحولت محطة الحاويات الى مركز لعمليات المسافنة (Transshipment) نحو مرافئ البلدان المجاورة، حيث بلغت 472 الف حاوية نمطية في العام 2018، اي ما نسبته 36 بالمئة من مجموع الحاويات التي تداولتها والبالغ 1.305 مليون حاوية نمطية.

17 تشرين الاول 2019 تاريخ مفصلي

ومع اندلاع الحراك الشعبي والمظاهرات والاضرابات وقطع الطرقات في 17 تشرين الاول (اوكتوبر) من العام 2019، بدأ مرفأ بيروت يشهد تراجعا دراماتيكيا بحركته الاجمالية ووارداته المرفئية والجمركية. وادى الانفجار المدمر والقاتل في 4 آب 2020 الى تدمير مرفأ بيروت القديم في حين انقذت العناية الالهية محطة الحاويات من الدمار، فلحقت بها اضرار صغيرة، وتمكنت من استئناف نشاطها واستقبال بواخر الحاويات بعد اسبوع واحد على وقوع الانفجار.

وتشاء الصدف ان بعد ايام قليلة على انفجار مرفأ بيروت اي في 13 أب 2020، بدا تطبيع العلاقات بين الامارات العربية المتحدة واسرائيل، كما وقعت «موانئ دبي العالمية» التي كانت تعرف سابقا بسلطة موانئ دبي» مذكرة تفاهم مع شركة Dover Tower الاسرائيلية للتعاون في مجال الشحن والموانئ وتطوير المناطق الحرة… وكانت اسرائيل قد طرحت سابقا مشاريع لبناء سكك حديدية لربط مرفأ حيفا في البحر الابيض المتوسط بشبكة سكك حديدية تمر بالاردن والسعودية وصولا الى موانئ دبي في البحر الاحمر. وهذا الربط هو البديل الذي كانت تسعى سلطة موانئ دبي الى تحقيقه عبر ربط مرفأ بيروت بموانئ دبي برا بواسطة الشاحنات والسكك الحديدية عندما فازت بمناقصة تجهيز وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ بيروت.

مرفأ بيروت محطة انطلاق

للمنتجات الصينية

بعد ذلك تحدث زخور عن طريقي الحرير والتنمية فقال : مما تقدم، يتبين ان مرفأ بيروت الذي يتمتع بهذا الموقع الاستراتيجي المميز، قادر ان يتحول الى محطة انطلاق للمنتجات الصينية القادمة براً عبر «الحزام والطريق» من غرب اسيا باعادة شحنها بحرا بواسطة السفن الى الموانئ الاوروبية المختلفة، كذلك يمكن ان يكون مرفأ بيروت قاعدة انطلاق بالاتجاه المعاكس، بحيث تصل البضائع الصينية والبضائع الاخرى من جنوب شرق اسيا الى لبنان بحراً ومن مرفأ بيروت تدخل هذا البضائع براً الى العمق العربي بمختلف تفرغاتها. وفي هذا المجال ايضا يمكن الحديث عن دور اساسي لمرفأ بيروت في اعادة اعمار سوريا والتي يمكن ان تلعب فيها الصين ودول اخرى دورا اساسيا عند انتهاء الازمة في سوريا، وكذلك يمكن ان يكون مرفأ بيروت مصدرا للامدادات المهمة الى العراق والى دول اخرى.

وكانت الصين قد دعت الى انشاء ميناء بري في منطقة الهرمل يكون مركزا لتجمع للبضائع الصينية الواردة عبر مرفأ بيروت باتجاه دول المنطقة العربية الداخلية، ما يجعل لبنان مركزا اساسيا لتموين المنطقة العربية بالبضائع الصينية، ويشكل سوقا اساسيا ومعرضاً بارزاً للبضائع الصينية ومركزا يأتي اليه التجار من انحاء العالم العربي لشراء البضائع الصينية».

كما يمكن لمرفا بيروت ان يلعب دورا محوريا للبضائع الاوروبية الواردة بحرا ويؤمن نقلها برا بواسطة الشاحنات الى مقصدها النهائي في العمق العربي عبر «طريق التنمية» العراقي او مباشرة وكما يجري حاليا عبر الاراضي السورية والاردنية وصولا الى دول الخليج العربي. كذلك يمكن ان يتحول مرفأ بيروت الى قاعدة انطلاق بالاتجاه المعاكس بحيث تصل بضائع الخليج العربي والعراق عبر «طريق التنمية» ومن ثم تصل برا عبر الاراضي السورية الى مرفأ بيروت لتنقل بحرا الى مقصدها النهائي في الدول الاوروبية.

ولكن لكي يتمكن مرفأ بيروت ان يتحول الى محطة انطلاق للمنتــجات الصــينية الواردة عبر «الحزام والطريق» ولبضائع الخليج العربي والعراقي الواردة عبر «طريق التنــمية» او للبضائع الاوروبية الواردة بحرا وتنقل الى مقــصدها النهائي في العنق العربي عبر «طريق التنمية» ايضاً، يتطــلب تطوير وتحديث البنية التحــتية للمواصلات البرية واعادة هيكلة القطاع المصــرفي في لبنان للاعــادة الثــقة فيه الى مستوياته المعهودة، بالاضافة الى القيام بالاصلاحات المطلوبة من المجتمعين العربي والدولي لاسيما اجتثاث الفساد المستشري في كافة مفاصل الدولة على كافة الاصعدة، واصلاح المسار القضائي وفصل السلطة القضائية عن السياسة والتي وظيفتها احقاق الحق والعدل، وهذا شرط اساسي لاستعادة الثقة في الدولة والنهوض باقتصاد البلاد وجذب الاستثمارات الخارجية.

ولا بد من الاشارة اخيرا الى ان الدول العربية التي ستكون منضوية في «الحزام والطريق» الصيني و «طريق التنمية» العراقي، مطلوب منها ايضاً الغاء جميع القيود التي تحد من حركة التبادل التجاري في ما بينها، لانه السبيل الوحيد لتنشيط مرافئها ونمو اقتصادها وزيادة دخلها الوطني ورفع مستوى معيشة شعوبها.

مصدرالديار - حوزف فرح
المادة السابقة“المركزي” والقرار الكبير: أيّ طبخة لمرحلة ما بعد سلامة؟
المقالة القادمةلبنان في المرتبة الثانية عالمياً لجهة الإنهاك في العمل!