نشر المصرف المركزي أخيرًا الميزانيّة النصف الشهريّة، التي تعكس وضعيّته الماليّة حتّى أواخر شهر آذار الماضي. مع الإشارة إلى أنّ المصرف اعتاد خلال الأشهر الأخيرة التأخّر في نشر هذه الأرقام، بعدما كان ينشر سابقًا تلك البيانات في ختام أو منتصف كل شهر، أي بمجرّد انتهاء الفترة الزمنيّة التي تتناولها الميزانيّة نصف الشهريّة.
على أي حال، يمكن القول أن الميزانيّة الأخيرة أظهرت تطوّرات معاكسة لتلك التي شهدها مصرف لبنان خلال الأشهر الماضية. إذ عاد حجم احتياطات العملات الأجنبيّة إلى التراجع، فيما توسّع حجم الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان بالليرة. وجميع هذه المؤشّرات السلبيّة، ترافقت مع زيادة ملحوظة في قيمة احتياطات الذهب المملوكة من المصرف، جرّاء ارتفاع أسعار الذهب العالميّة.
تغيّر حجم الاحتياطات والكتلة النقديّة
وفقًا للميزانيّة نصف الشهريّة، سجّلت احتياطات العملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان تراجعًا بقيمة 33 مليون دولار، خلال الفترة الممتدة بين منتصف شهر آذار ونهايته. وبهذا الشكل، بات حجم هذه الاحتياطات يقارب حدود 9.81 مليار دولار أميركي، بحلول نهاية الشهر.
وهذا ما يمثّل اتجاهًا معاكسًا لما حققه مصرف لبنان منذ بداية شهر آب الماضي، أي منذ انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة. حيث كان مصرف لبنان قد حقق زيادة في حجم احتياطاته بقيمة تجاوزت المليار دولار، خلال تلك الفترة، ولغاية شهر آذار الماضي.
المؤشّر السلبي النقدي الآخر، تمثّل في ارتفاع حجم الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان، من 58.3 ترليون ليرة في منتصف شهر آذار، إلى 59.95 ترليون ليرة في نهايته. أي بمعنى آخر، ارتفع حجم الليرات المتداولة في السوق خلال تلك الفترة بنحو 1.65 ترليون ليرة، وبنسبة تناهز 3%.
ومرّة أخرى، جاءت هذه الزيادة الملحوظة، التي تقارب قيمتها 18.43 مليون دولار حسب سعر الصرف الفعلي، لتعاكس المسار العام خلال الأشهر الماضية. إذ كان حجم هذه الكتلة النقديّة قد تراجع من 81.2 ترليون ليرة في بداية شهر حزيران الماضي، إلى أقل من 72% من هذه القيمة في منتصف الشهر الماضي، جرّاء استيفاء الرسوم الضريبيّة بالليرات النقديّة.
البحث عن أسباب هذه التحوّلات، يقودنا إلى النظر في تأثير المساعدات الاجتماعيّة التي أقرّها مجلس الوزراء، لموظفي القطاع العام، والتي جرى دفعها خلال الشهر الماضي بمفعول رجعي يغطّي شهري كانون الأوّل وكانون الثاني السابقين. بهذا الشكل، استخدم مصرف لبنان ما راكمه من احتياطات بالدولار لسداد تلك المساعدات بالعملة الصعبة، وفقًا لسعر الصرف المعتمد لديه، والموازي لسعر السوق السوداء. كما ترجّح الزيادة في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة أن يكون المصرف المركزي قد اضطرّ لجمع قيمة إضافيّة من الدولارات من السوق، مقابل سداد ثمنها بالليرة، لتغطية جزء من هذه العمليّة.
في جميع الحالات، من غير المرجّح أن تستمر الانخفاضات في حجم الاحتياطي خلال الأشهر المقبلة، جرّاء العامل نفسه، أي عمليّة سداد المساعدات الاجتماعيّة التي أُضيفت إلى رواتب موظفي القطاع العام. فخلال الشهر الماضي، استحقّت كتلة ضخمة من المساعدات دفعة واحدة، بسبب سداد المساعدات عن ثلاثة أشهر، أي شباط وكانون الثاني وكانون الأوّل، في حين أن المصرف سيلتزم بسداد المساعدات لشهر واحد في الأشهر المقبلة.
التحوّلات في سائر بنود الميزانيّة
سائر بنود الميزانيّة، لم تشهد تغيّرات جذريّة تستحق البحث، باستثناء بند احتياطات الذهب الذي حقق زيادة بقيمة 23.63 مليون دولار خلال النصف الثاني من شهر آذار، جرّاء الزيادات في أسعار الذهب العالميّة. وبهذا الشكل، باتت قيمة احتياطات الذهب المملوكة من المصرف المركزي توازي حدود 20.32 مليار دولار، بحلول نهاية شهر آذار. وفي النتيجة، باتت قيمة احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة معًا، أي الموجودات السائلة، تقارب 30.13 مليار دولار.
على المقلب الآخر، لم تشهد الميزانيّة تغيّرات مهمة في البنود التي تعبّر عن خسائر مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، والتي تمثّل مصدر أزمة السيولة التي يعاني منها القطاع المصرفي. فحجم هذه البنود مجتمعة مازال مقدرًا عند حدود 61 مليار دولار، أي عند مستوى قريب لأرقام خطّة الحكومة الماليّة، التي جرى إقرارها قبيل الانتخابات النيابيّة الأخيرة. مع الإشارة إلى وجود جزء آخر من الخسائر المتراكمة في ميزانيّات المصارف التجاريّة، والتي ترفع خسائر القطاع بأسره إلى نحو 73 مليار دولار.
في النتيجة، أهم ما في الأمر، هو أنّ حجم خسائر الميزانيّة بات يمثّل اليوم نحو 59% من الموجودات المعلنة والمسجّلة في الوضعيّة الماليّة لمصرف لبنان. وهي خسائر غير مُعالجة تسهم في تطبيع الأزمة واستدامتها. مع العلم أن نحو 87 مليار دولار من أموال المصارف ما زالت مودعة في مصرف لبنان، بالعملة المحليّة والعملات الأجنبيّة، وهو ما يربط ميزانيّة مصرف لبنان وميزانيّات المصارف بشكل وثيق. ومن دون معالجة هذه الخسائر، وفقًا لخطّة ماليّة ومصرفيّة شاملة، سيكون من المستحيل توقّع أي معالجة فعليّة لأزمة الودائع العالقة في النظام المصرفي.
هذا المشهد، يعيد التذكير بالحلول الماليّة المؤجّلة، وفي طليعتها القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي سُحب عن طاولة مجلس الوزراء، بناءً على ضغط جمعيّة المصارف، في شهر شباط الماضي، من دون أن يُطرح على بساط البحث مجددًا.