في أواخر العام 2019، أي في بدايات الأزمة الماليّة التي مرّت بها البلاد، لم تكن قيمة احتياطات الذهب المملوكة من مصرف لبنان تتجاوز مستوى 13.9 مليار دولار. يومها، لم تكن هذه القيمة توازي أكثر من 10% من إجمالي موجودات المصرف المركزي، التي كانت –ولا تزال- مشوّهة بألاعيب محاسبيّة تسمح باحتساب بعض الخسائر كموجودات فعليّة، أو باحتساب بنود الموجودات وفقًا لسعر الصرف الرسمي القديم، حتّى بعد التدهور الذي طرأ على قيمة الليرة اللبنانيّة.
غير أنّ ما طرأ طوال السنوات الخمس الماضية، على مستوى أسعار الذهب العالميّة، أو على مستوى تركيبة ميزانيّة المصرف المركزي، غيّر من قيمة ونسبة بند احتياطات الذهب في الميزانيّة.
احتياطات الذهب فوق الـ20 مليار دولار
في ميزانيّة المصرف المركزي النصف شهريّة، التي تعكس وضعيّة المصرف الماليّة حتّى منتصف الشهر الراهن، يتضح أن قيمة احتياطات الذهب المملوكة من المصرف قفزت إلى مستوى 20.03 مليار دولار، ما يعكس زيادة سنويّة بنسبة 13.95%. أمّا الأهم، فهو أن قيمة احتياطات الذهب –بالدولار الأميركي- قد ارتفعت بأكثر من 44%، مقارنة بقيمتها في أواخر العام 2019.
أو بصورة أوضح، يمكن القول أن ميزانيّة المصرف المركزي حققت أرباحاً دفترية بقيمة 6.13 مليار دولار جرّاء ارتفاع قيمة الذهب الذي يملكه مصرف لبنان. مع الإشارة إلى أنّ ثلث احتياطات الذهب هذه مودعة حاليًا في الولايات المتحدة الأميركيّة، بينما يحتفظ المصرف بالنسبة المتبقية في خزائنه.
من السهل فهم أسباب هذا التحوّل المثير للاهتمام. فسعر أونصة الذهب الذي قارب حدود 1840 دولاراً أميركياً في كانون الأوّل 2019، ارتفع إلى مستويات تجاوزت مستوى 2,232 دولاراً أميركياً اليوم. وأسباب هذه الارتفاع مفهومة، إذا ما أخذنا بالاعتبار الاضطرابات الاقتصاديّة التي رافقت تفشّي وباء كورونا، ثم حربي أوكرانيا وغزّة، والتي غالبًا ما تدفع المستثمرين لاكتناز المعدن الأصفر كملاذ آمن.
وخلال السنوات نفسها، كانت المصارف المركزيّة حول أنحاء العالم تراكم احتياطات الذهب، لتقليص اعتمادها على الاحتياطات المقوّمة بالدولار الأميركي، والتي تتأثّر قيمتها سلبًا بمعدلات التضخّم المرتفعة، أو تتأثّر إمكانيّة استعمالها بأي عقوبات سياسيّة محتملة.
غير أن تطوّرًا آخرَ ينبغي ملاحظته في الميزانيّة النصف شهريّة الأخيرة. فنسبة قيمة الذهب، من إجمالي موجودات المصرف، ارتفعت من 10% في أواخر العام 2019 إلى نحو 21.44% اليوم. وإذا ما استثنينا الموجودات الوهميّة، التي تمثّل خسائر فعليّة، أو ديوناً مستحدثة على الدولة بموجب عمليّات التزوير التي قام بها الحاكم السابق رياض سلامة، فسيمثّل الذهب أكثر من ثلثي الاحتياطات السائلة، أو القابلة للتسييل، والتي تقتصر حاليًا على الذهب واحتياطات العملة الأجنبيّة.
ارتفاع نسبة الذهب من إجمالي الموجودات، لا يرتبط فقط بزيادة قيمته الفعليّة بالدولار الأميركي، بل يرتبط أيضًا بكفيّة إعداد الميزانيّة نفسها، بعد الانتقال إلى احتساب قيمة الأصول وفقًا لسعر الصرف الفعلي هذه السنة، لا سعر الصرف الرسمي. وعلى أي حال، وحسب الأرقام الحاليّة، يمكن القول أن قيمة الذهب مع احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، وهي الأصول السائلة أو القابلة للتسييل، باتت توازي حاليًا 29.87 مليار دولار، أي نحو ثلث الموجودات المصرّح عنها في الميزانيّة (بما فيها الموجودات الوهميّة).
الخوف على مصير الذهب والاحتياطات
كما أشرنا سابقًا، ثمّة خشية يُعبّر عنها همسًا في الوقت الراهن، اتجاه وجود نحو ثلث احتياطات الذهب في خزائن الولايات المتحدة الأميركيّة.
إذ من المرتقب أن يحاول –في المرحلة المقبلة- حملة سندات اليوروبوند الحجز على هذه الاحتياطات، من خلال محاكم نيويورك، عبر الطعن باستقلاليّة المصرف المركزي الماليّة، ومن ثم رفع الحصانة القانونيّة عن موجوداته. وكما هو معلوم، أعطى الحاكم السابق رياض سلامة السلاح القانوني الأمثل لهؤلاء الدائنين، من خلال عمليّات التزوير التي قام بها في آخر ولايته، والتي حوّلت خسائر المصارف والمصرف المركزي إلى ديون عامّة على الدولة اللبنانيّة، من دون أي مسوّغ قانوني منطقي. مع الإشارة إلى أنّ محاولات الدائنين هذه قد تستهدف أيضًا الحجز على احتياطات المصرف السائلة بالعملات الأجنبيّة.
الإشكاليّة الأهم، هي أنّ الحاكم بالإنابة وسيم منصوري بات يتبنّى خلال لقاءاته الأخيرة المقاربة التي اعتمدها الحاكم السابق. وبهذا الشكل، وعوضًا عن تصحيح عمليّات التزوير التي جرت خلال ولاية سلامة، يبدو أن المصرف المركزي يتجه حاليًا للاحتفاظ بهذه الألغام في ميزانيّته، وهو ما يجعل استهداف موجودات المصرف –من قبل الدائنين- أمرًا متوقعًا خلال الأشهر المقبلة. ببساطة، سيحاجج الدائنون بأن المصرف يفتقد إلى الاستقلاليّة الماليّة طالما أنّه: يحوّل خسائره إلى ديون عامّة على الدولة، وطالما أنّه منخرط في أعمال تزوير أخفت بعض الديون سابقًا أو استحدثتها فجأة بعد العام 2023.
المشكلة الثانية، هي أنّ الدولة اللبنانيّة لم تقم بأي جهد رسمي لمحاولة استعادة الذهب المودع في الولايات المتحدة، أو استخدام جزء من الاحتياطات الماليّة لشراء أصول غير قابلة للحجز من قِبل محاكم نيويورك. ومن المعلوم أن محاولة استعادة الذهب، أو تحصين موجودات المصرف على هذا النحو، لن تكون مسألة سهلة المنال، حتّى قبل تلقّي دعاوى الدائنين في محاكم نيويورك. لهذا السبب، قد يكون من المفيد طرح هذه الفكرة في الوقت الراهن، كخطوة استباقيّة قبل الدخول في مرحلة التقاضي مع الدائنين الأجانب، وقبل تحمّل مخاطر الحجز على نسبة وازنة من موجودات مصرف لبنان.
في النتيجة، على المصرف المركزي والحكومة أن يتلقّفا معًا هذه التطوّرات الشديدة الحساسيّة، والتي ترتبط بالمخاطر التي تحيط بموجودات مصرف لبنان. وإذا كان الحاكم بالإنابة جادًا في مسألة تحصين الحد الأدنى من حقوق المودعين، فعليه أن يعمل جادًا –بالقدر نفسه- في تحصين ما تبقى من أصول المصرف، التي تمثّل أهم ما تبقى في القطاع المصرفي من موجودات سائلة. وتحصين هذه الأصول، يبدأ أولًا بمراجعة وتصحيح أعمال التزوير التي جرت خلال ولاية سلامة، وينتهي بمحاولة إعادة أكبر قدر ممكن من أصول المصرف إلى لبنان، لإبعادها عن ملاحقات الدائنين الأجانب.