يتحدّث رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي هذه الأيام كما لو أنّه وصل لتوّه الى السلطة التنفيذية، وأنه سيطلق ورشة إصلاحية جذرية «تشيل الزير من البير»، متناسياً أنّه في سدّة السلطة التنفيذية منذ سنتين. سنتان لا تشبهان أي سنوات لأنهما في صلب أزمة غير مسبوقة، وكان يفترض أن يتضاعف العمل خلالهما بإنتاجية عالية غير مسبوقة أيضاً. لكن ذلك ليس في قاموس ميقاتي الذي فشل في تطبيق 99% من بيانه الوزاري، وخرج علينا أمس بخبر «ثوري» عن تشكيل لجان لوضع مشروع قانون ضريبة الدخل الموحّدة، مشروع تعديل قانون المحاسبة العمومية، إعادة هيكلة القطاع العام والمؤسسات العامة، هيئة لتحقيق وتنسيق ووضع المعايير لأنظمة المعلوماتية في الدولة اللبنانية، إصلاح الجمارك وضبط التهرّب من التسجيل في الضريبة على القيمة المضافة، والضريبة على السلع الفاخرة…
معضلة الإيرادات
وفي استعراض سريع لتلك العناوين يظهر جلياً أن معظمها متعلّق بوزارة المالية وكيفية زيادة الإيرادات. وللتذكير، فإن حكومة ميقاتي وفي كل ميزانية أقرّتها هناك عجز وتقهقر إضافي في تلك الإيرادات التي يتآكل جزء منها بفعل تدهور سعر الصرف وجزء لا تستطيع (أو لا تريد) وزارة المالية جبايته. فنسأل ميقاتي: هل التهرّب من دفع ضريبة القيمة المضافة جديد على مسمعه حتى يصحو اليوم لمحاربته؟ وهل كبح التهرّب الضريبي يحتاج الى لجنة أم الى غرامات قاسية تُفرض على المتهرّبين بعد كشفهم وتعرية أساليبهم في الاحتيال؟ كما نسأله هل تسيّب الجمارك موضوع جديد؟ وهل اللجنة العتيدة التي تحدث عن تشكيلها ستخيف المهرّبين أم أن عصا القانون هي الفيصل الرادع لكل من تسوّل له نفسه التعدّي على المال العام، وخرق سيادة المعابر في المرافئ والمطار وعلى الحدود البرية؟ أما حديثه عن فرض ضرائب على السلع الفاخرة فعمره من عمر لبنان أيضاً، وليس بحاجة الى لجنة بل الى قرار لا يأخذ في الاعتبار مصالح المستهلكين الأثرياء، ومنهم من هو متغلغل في مفاصل الحكومة ومجلس النواب فضلاً عن طبقة مالية ومصرفية وتجارية وعقارية متحالفة مع السلطة، وتضغط بكل قوّتها لإعفاء نفسها دائماً مما يتوجب عليها من ضرائب ورسوم. وخير دليل تلك الفضيحة التي كان يراد إمرارها في موازنة 2023 بتواطؤ من ميقاتي نفسه لإعفاء الأثرياء من ضريبة crs، وهي الفضيحة التي كشفتها «نداء الوطن» الأسبوع الماضي وفي اليومين الماضيين. أما مشروع الضريبة الموحّدة على الدخل الذي بحّ صوت الإصلاحيين وهم ينادون بعدالته وبشمولية إفصاحاته ومردوده المرتفع، فقد صمّت وزارة المالية آذانها عن سماع ما يجب سماعه عنه منذ سنوات وسنوات، وتحديداً منذ تولي علي حسن خليل وزارةَ المالية في العام 2014. ما يعني حتماً أن لا نية إصلاحية حقيقية في تلك الوزارة، وهنا يفترض أن تناقش المعضلة في السياسة طالما صنّفت وزارة المالية كحقيبة لطائفة دون أخرى بحجّة ما يسمّى «التوقيع الثالث».
بطولات وهمية
على صعيد الموازنة قال ميقاتي «نحن اليوم أقررنا موازنة العام 2024، وأودّ أن أقول إنها أول موازنة منذ العام 2002 تقرّ في مواعيدها الدستورية قبل بدء الدورة الثانية لانعقاد مجلس النواب، وهذا إنجاز كبير جداً. وأعتبر ذلك بطولة»!!. وهنا أيضاً يتحدّث ميقاتي عن أوهام، إذ إننا أمام مشهد سُريالي في تحويل موازنتي 2023 و2024 معاً الى مجلس النواب، فالإنجاز البطولي سيحسب للنواب إذا فهموا شيئاً من هاتين الموازنتين ومدى ترابطهما من عدمه. وهما وضعتا في الفترة نفسها، أمر لم يشهده لبنان في تاريخه ولا يمكن أن يحصل في دولة عادية في العالم. أما مديحه لموظفي وزارة المالية الذين أنجزوا موازنة 2024 في وقت قياسي فعرضة للتهكم طالما هؤلاء لا يستطيعون جباية ما يجب جبايته، ويقفون متفرّجين (متواطئين؟) على التهرّب الجمركي والتهرّب الضريبي. شطارة وضع الأرقام في المكتب ليست شطارة، فأغنية البطولة والإنجاز (بصوت ميقاتي) هي في أن تتحقّق تلك الأرقام على أرض الواقع، فترتفع الجباية ونتجنّب العجز، ونضع المالية العامة على سكة إصلاحية مستدامة تشكل قاطرة لخروج لبنان من أزمته.
نصيحة بديهية
وردّاً على سؤال عن إلغاء استيفاء بعض الرسوم بالدولار الأميركي، قال ميقاتي: «كان لدينا لقاء بالأمس مع صندوق النقد الدولي الذي نصح بأن تبقى الواردات بالليرة اللبنانية، لأنه عندما تدخل الواردات الى المصرف المركزي فهو يشتري الدولارات بطريقة منظّمة أكثر من العشوائية التي تنتج عن شراء المواطن الدولارات لدفع ضريبته، لا سيّما في ظل وجود منصة بلومبيرغ التي أقررناها في مجلس الوزراء وهي منصة دولية شفافة». ولحسن الحظ إن هناك وفداً من صندوق النقد في لبنان هذه الأيام ليسمع ميقاتي نصيحة بديهية كهذه، وإلا لكانت الحكومة ترمي إلى جباية رسوم وضرائب بالدولار تدفع المكلفين للتفتيش عن تلك الدولارات في أسواق الصرافة ما يضاعف الطلب على العملة الخضراء وبالتالي يرتفع سعرها أمام الليرة في مسلسل آخر من مسلسلات المغامرات الميقاتية التي بدأت في أيلول 2021 بوعود وردية ولا يبدو أنها ستنتهي إلا بتعميق الأزمة أكثر وتجذير سلبياتها بحيث لا يخرج لبنان منها في سنوات طويلة عجاف.