أربعة أشهر على انفجار الأزمة الإقتصادية – النقدية، والمعنيون لم يتخطّوا بعد مرحلة الإنكار، أولى مراحل نموذج “كيوبلر روس” للتعامل مع المصائب. فبعد زيارة إلى حاكمية مصرف لبنان، نقل الوزير السابق جو سركيس عن لسان الحاكم أن لا ” Hair Cut، وأن هذا الإجراء لا ينفع وليس هو الحل”.
يتشارك أكثر من مليونَي مودع هذا الرأي مع المعنيين في إدارة الأزمة النقدية. فهذا التصريح قد ينزل برداً وسلاماً في صدورهم، لو لم يكن الآلاف منهم عاجزين عن التصرف بودائعهم المقوّمة بالدولار، ويضطرون مكرهين إلى سحب ما يعادلها بالليرة اللبنانية على السعر الرسمي، في حين ان السعر الحقيقي تجاوز الـ 2500 ليرة لبنانية.
ولكن، ألا يُعتبر هذا الإجراء Hair Cut مقنّعاً؟ أو لعباً على الكلام في أحسن الأحوال؟ فكيف يمكن ان نصف خسارة كل المودعين بالعملات الأجنبية حوالى 66.6 في المئة من قيمة ودائعهم (حتى الساعة) ومن دون موافقتهم ومن دون أي تعويض جدّي عليهم؟ انه إجراء تعسّفي يفوق الـ Hair Cut فظاظةً بأشواط. “فحلاقة” الودائع المقوننة أكثر رحمة وعدلاً، فهي أولاً، لا تمسّ صغار المودعين من أصحاب تعويضات نهاية الخدمة والمدّخرين من الرواتب المحدودة لضمان تأمين الشيخوخة أو المقتطعين من دخلهم لتأمين أقساط ابنائهم في المدارس والجامعات بل تطال بشكل أساسي كبار المودعين الذين استفادوا على مر السنين من الفوائد الريعية العالية. وثانياً فان مبدأ Hair Cut يفرض على المصارف إعطاء المودعين أسهماً مقابل كل سنت يقتطعونه من حساباتهم، وعليه فان امكانية استرجاعهم أموالهم في المستقبل تكون ممكنة في حال ارتفعت قيمة الأسهم وعاود الإقتصاد نشاطه.
المستشار المالي غسان شماس يشير إلى انه حتى اللحظة “لا يوجد تعميم يجبر المصارف على سداد الودائع بالليرة اللبنانية حصراً، وان ما تقوم به البنوك يُعتبر من الناحية القانوينة سليماً، حيث بإمكان المودعين الحصول على المبالغ بالعملة الاجنبية بواسطة الشيكات”. التدابير التي لا يوافق عليها شماس، لا تعني في المقابل انها خاطئة، فالذي يحصل هو شعور المودعين بالغبن نتيجة الفرق بسعر الصرف بين المصارف والسوق الثانوية.
تخفيض الصرف ليس حلّاً
تخفيف الشعور بالغبن يدفع المودعين بالعملة الاجنبية أو من يتقاضون رواتبهم بالدولار الى المطالبة بتحرير سعر الصرف أو تخفيض قيمته إلى 2000 أو 2500 مقابل الدولار. ما يسهل قوله نظرياً يبدو تطبيقه أكثر صعوبة لا بل مستحيلاً في الوقت الحاضر. فما يشكل فائدة بالنسبة الى اصحاب الودائع بالدولار، يشكل خسارة فادحة للمقترضين بالليرة اللبنانية من أصحاب الدخل المحدود، فالمدين بقيمة 1000 دولار على سبيل المثال يتحتم عليه ارجاعها مليون و500 الف ليرة لبنانية، لكن في حال تخفيض قيمة العملة الى 2500 ليرة يتحتم عليه عندها ارجاعها مليونين و500 الف ليرة، أي بزيادة مليون ليرة من دون ان يكون دخله قد شهد أي زيادة. علماً ان تخفيض قيمة العملة رسمياً من دون تأمين الإستقرارين السياسي والاقتصادي سيجعلها عرضة للتقلبات الحادة والمستمرة، وهو ما ينفّر المستثمرين، ويقضي على أي ثقة ممكن ان تبنى تجاه البلد ويتحول لبنان الى “عراق” ثان على المستوى النقدي.
فرص العودة للاستقرار النقدي والإزدهار الإقتصادي ليست معدومة انما تتطلب تغييراً في الذهنية الحاكمة أولاً والإقتناع بأن لا خلاص من دون إصلاح جدي، و”هذا ما لا يظهر انه سيحدث”، برأي عضو هيئة مكتب المجلس الإقتصادي والإجتماعي د. أنيس أبو دياب، “إذ ان حراجة المرحلة التي وصلها لبنان، والمترافقة مع صراع بين تيارين داخل الحكومة مختلفين على الخيارات الإقتصادية للمرحلة المقبلة، يحوّلان بعض الإجراءات الإيجابية التي تتخذ إلى سلبية. وهذا ما أظهره رد فعل الأسواق على خطوة ضخ 100 مليون دولار لدعم الصناعة الوطنية. فهذه الخطوة الجيدة تلقفتها السوق عكسياً، نتيجة تأثرها بخطاب رئيس الحكومة المخيف والذي المح فيه الى امكانية استقالة الحكومة”، يقول أبو دياب.
وجود “الصندوق” ضرورة
من غير الممكن ان نصل الى استقرار في سعر الصرف وهدوء الاسواق اذا لم تقدّم هذه الحكومة خطة متكاملة، مبنية على أسس علمية واضحة وليس على الخوف والقلق. فدعوة “صندوق النقد الدولي” للمشاركة في الحل لم تكتمل، واقتصرت على أخذ رأيه الذي كان ينقصه اتمام الحكومة لواجبها بإعداد خطة متكاملة. فلم تقدم أي خطة للصندوق مثلما لم تقدم الحلول التي ستتخذ للشعب اللبناني، كما وعدته انها ستنجزها في نهاية شهر شباط.
“الحلول من دون Hair Cut مقولة لطالما جرى تردادها والتشديد عليها، والكثر منّا صدّقها، انما مع مرور الأيام يتضح اننا سنصل إلى مكان تصبح فيه الخيارات أصعب وأكثر كلفة”، يختم أبو دياب.