تواجه وزارة المال في لبنان أزمة مستجدة، أزمة من نوع آخر لا تُحل بالقرارات، ولا بالمال إن وُجد. هي أزمة نقص الكوادر البشرية ذات الخبرات العالية. فقد أدى تدهور الظروف المعيشية للموظفين في عموم الإدارات، وخصوصاً في وزارة المال إلى خروج الكوادر البشرية نحو مؤسسات القطاع الخاص في لبنان والخارج، ما خلّف نقصاً فادحاً في الإدارة المالية، لاسيما في الادارة الضريبية. فما هي المخاطر التي قد يخلّفها النقص البشري في الإدارة الضريبية؟
هجرة الكادر البشري
أثر تدهور ظروف العمل على مجمل الإدارة المالية وتحديداً على الإدارة الضريبية، وحسب مصدر في وزارة المال، فإن الكادر البشري في الإدارة الضريبية من الأكثر كفاءة. وهو الكادر الذي تفقده وزارة المال تدريجياً. وحسب المصدر، فإن الكادر البشري التقني الرفيع ذات الخبرة العالية خرج من وزارة المال. وغالبية أفراده هاجروا أو تلقوا عروض عمل في القطاع الخاص، وبرواتب عالية جداً بالمقارنة مع رواتبهم في وزارة المال.
قد تعاني الإدارات العامة من تخمة موظفين في بعض إداراتها وبعض فئاتها الوظيفية، لكنها في المقابل تعاني نقصاً فادحاً في الإدارات المتخصصة، ومن بينها الإدارة الضريبية، يقول المصدر لـ”المدن”. فهجرة الكادر البشري من الإدارة الضريبية أمر مكلف جداً، لأن إعادة بناء كادر كفوء ذات مهارات هو أمر بالغ الصعوبة، يتطلب سنوات الطويلة وتكلفة مالية باهظة.
وهناك كوادر بشرية عملت الإدارة المالية على تدريبهم خارج لبنان، سواء في صندوق النقد الدولي أو فرنسا أو كبرى المؤسسات الدولية، للاطلاع على تجارب أخرى وتنفيذ إصلاحات واكتساب خبرات عملية وغيرها.. هؤلاء تحديداً هم من تخسرهم المالية اليوم. وهو ما يدفعها للبدء من الصفر في تأسيس كوادر جديدة.
ففي حال بدأت اجهزة الدولة باستعادة عافيتها، فإن العودة إلى العمل تبدأ من الإدارة الضريبية بالدرجة الأولى، لأنها الإدارة الأساسية التي يمكنها تحسين إيرادات الدولة. ولكن هذه الإدارة باتت شبه معطّلة اليوم بفعل هجرة كوادرها البشرية.
أزمة “داتا” ضريبية
يهدد فقدان الكوادر البشرية التقنية من الإدارة الضريبية في وزارة المالية، سلامة قاعدة المكلفين المسجلين. إذ لم يعد هناك من آلية ممكنة لتفادي الجرائم الإلكترونية والتزوير، كما لم يعد هناك من تدقيق داخلي ممنهج لسجل المكلفين.
فالادارة الضريبية التي كانت سباقة في المنطقة العربية، وحازت على جوائز من الأمم المتحدة للخدمة العامة، في سنوات ما قبل الأزمة، تتعرض اليوم لخسارة فادحة بسبب تداعيات الأزمة المالية. ويقول الخبير في شؤون المالية العامة، اسكندر البستاني، إن الدولة اللبنانية خسرت استثمارها بالكوادر البشرية الذي أسسته على مدار 15 عاماً.
ويشرح في حديثه إلى “المدن”، أن هناك أموراً تقنية دقيقة ترتبط بالمحاسبة العمومية وادارة الدين والموازنة، لا يمكن إنجازها إلا من خلال الكوادر البشرية المدرّبة. لافتاً إلى أن الفئة المدرّبة والكفوءة خسرتها وزارة المال. ويسأل: إن كنا مقبلين على إصلاحات في المالية العامة في المرحلة المقبلة، فمَن الذي سيقوم بترجمة تلك الإصلاحات في ظل النقص الفادح بالكوادر البشرية؟
ويتحدث البستاني عن استحالة الوصول اليوم إلى البيانات الكمية أو quantitative data المرتبطة بالضرائب المحصلة وغير المحصلة، والمكلفين بحسب المناطق. وهي البيانات التي تساعد على دراسة العدالة الضريبية حسب المناطق والقطاعات. هذه البيانات لم يعد متاحاً الاطلاع عليها، لأن في وزارة المال كان يعمل أكثر من 20 متخصصاً في تكنولوجيا المعلومات IT، وهم متخصصون بالأمور التقنية من إدارة البيانات إلى إدارة الخوادم server وغير ذلك، لم يعد موجوداً منهم اليوم سوى شخص واحد فقط.
ويقول البستاني إنه حتى لو استقامت الأمور، فإن الإدارة المالية تحتاج من 5 إلى 10 سنوات لتدريب كوادر بشرية جديدة. فتعويض الخسارة البشرية ليس بالأمر السهل.
هذه الأزمة تأخذنا إلى مشكلتين. الأولى، غياب الكوادر المتخصصة بالداتا الموجودة اليوم في وزارة المال. والمشكلة الثانية، هي أن الداتا الجديدة في السنوات القليلة الماضية والمقبلة لم يعد موثوقاً إذا كان يتم تخزينها أم أننا نخسرها أيضاً.
ومن الملاحظ أن وزارة المال تغلق موقعها الالكتروني بعد الساعة 4 بعد الظهر يومياً، لنقص الكوادر البشرية. ويبقى الخوف الأكبر من خسارة الذاكرة المالية لسنوات طويلة.