لا تشبه حركة ساحة شتورا منذ نحو أسبوع تقريباً ما كانت عليه قبل أشهر. فسوق الصرافين الأكبر في منطقة البقاع، والذي تراكمت فيه أرباح المؤسسات الشرعية وغير الشرعية، يخبر في هذه الايام عن تراجع في حركة تبادل الدولار. فيما الصرافون يبدون بحالة ترقب لما ستؤول إليه الأمور في الأشهر المقبلة.
لا شيء مستبعد هنا. فأي خضة كفيلة بإعادة عقارب الساعة أسابيع الى الوراء. وبما أن لا توقعات لدى الصرافين بتراجعات كبيرة في قيمة الدولار، فهم يحتفظون برساميلهم الكبرى بالعملة الأجنبية. برأي هؤلاء أن تحسن قيمة الليرة في المدى القريب مستبعد. بينما تعرض العملة الوطنية لأي خضة إضافية، ستوقعهم بخسائر محتمة. معادلة يبدو أنها تعممت إجتماعياً، وخصوصاً مع دولرة الرواتب، بحيث بات البعض لا يبدل دولاراته إلا لحاجات آنية، مفضلاً الإحتفاظ بها في جيبه، وحتى لو لم تتعد العشرات.
المصري: الصيت لنا والربح لهم
أما أبرز ما بدّل من مشهد السوق هنا، كما يقول بعض الصرافين، فهو هدوء حركة التطبيقات التي تحكمت بسعر الصرف. فجأة لا عرض ولا طلب. وذلك بالتزامن مع تسلم وسيم منصوري لحاكمية مصرف لبنان بالإنابة. وهذا ما يشكل بالنسبة لبعض الصرافين دليلاً على أن معظم حركة العرض والطلب كانت ولا تزال مرتبطة بحاجة مصرف لبنان.
وبحسب نقيب الصرافين مجد المصري “بعدما تحوّلنا الى كبش محرقة ومكسر عصا، وحُبسنا وشمعت مؤسساتنا بالأحمر، جاء من يؤكد للجميع، وقبل مغادرة الحاكم السابق رياض سلامة، أن لا أحد يؤثر على سعر الصرف غير المصرف المركزي وهو الوحيد الذي لديه القدرة في ذلك، كما هو الحال في دول العالم، لا يوجد بنك ولا صراف يستطيع التلاعب بسعر العملة.”
لا أحد بمكنه في المقابل توقّع قدرة مصرف لبنان على الصمود بهذه السياسة. ولذلك يترقب الصرافون في شتورا المفاجأة بأي لحظة.
المضاربة و”باب الرزق”
لا ينفي بعض أصحاب مؤسسات الصيرفة الشرعية في المقابل، أنهم إنجروا للعبة التطبيقات لجهة تجند الكثيرين منهم لتلبية الطلبات التي كانت ترد عليها وتتسبب بتذبذبات كبيرة في السوق. وهذه التطبيقات وإن لم يشاركوا فيها بالمضاربة ولكنها فتحت لهم “باب رزق” على تبادلات كبيرة للعملة، كان بعضها يجري أيضا من خارج القوانين والأنظمة التي ترعى هذه المهنة. فغامروا حتى برخصهم في بعض الأحيان.
غير أنه فور توقف نشاط هذه التطبيقات، إكتشفوا أنهم تحوّلوا الى الخاسرين الوحيدين. “أكلنا الضرب” كما يقول أحدهم. “فنحن كنا بالواجهة، أما فعليا فإن الصرافين غير الشرعيين هم من جنوا الارباح الكبرى، وإبتلعوها. وعليه عندما صارت قطعة الجبنة أصغر، إنصرف معظم من تعدّوا على المصلحة إلى أعمالهم المختلفة، ولم يتأثر بالجمود الحاد في السوق سوانا.”
تراجع بنسبة 75 بالمئة
مسألة يؤكدها أيضا النقيب المصري. فيتحدث عن تراجعات بنسبة 75 بالمئة في حركة بيع وشراء الدولار، وعن مؤسسات صيرفة شرعية أقفلت خلال الأزمة، وقد جرى إكتشافها كما يقول عندما “بادرنا لتوجيه الدعوة الى تجمع الجسم الصيرفي ومحاولة إعادة تنظيمه”.
يعتبر المصري “أنه كلما إستقر سعر الدولار، سيعود كل واحد من الأربعة ملايين صراف الذين ولدوا في الأزمة، من صاحب الدكان الى السائق والى حامل الشنطة وسواهم، الى حياته ومهنته ونبقى نحن الصرافون الشرعيون وعددنا 304 صرافاً، لنلملم الاشلاء. علماً أن هؤلاء كانوا شركاء في حركة التداول مع الصرافين الشرعيين فكان الصيت لنا والربح الأكبر لهم.”
تفوق الصرافين غير الشرعيين
ولكن لماذا لم يحاول الصرافون “الشرعيون” أخذ المبادرة لتدارك تسلل الفوضى الى مهنتهم؟. يجيب المصري “كانت هناك محاولات في الأسابيع الأولى من الأزمة ولفترة قصيرة، حاول خلالها مصرف لبنان أن يضخ الليرة لجمع الدولار عبر هذه المؤسسات حصراً. ولكنها تعرقلت سريعاً، ولم يكن للصرافين الشرعيين اي دور في إدارة هذه الأزمة.”
يتحدث النقيب عن مسألتين أساسيتين كانتا وراء تفوق الصرافين غير الشرعيين على الشرعيين. أولاً تقاعس كل الأجهزة المعنية عن القيام بدورها في ملاحقة هؤلاء. صحيح أنه جرت بعض التوقيفات ولكن لم يحاسب أي من المتلاعبين بالسوق، وثانيا لم تلاحق التطبيقات ومن وراءها بشكل جدي مع أنهم معروفون تماماً. في ظل عدم قدرة مصرف لبنان على فرض قوانينه على الشركات والافراد الذين كانوا يجمعون الدولارات، فكان من الطبيعي أن تعم الفوضى”.
ويشرح المصري “كصرافين شرعيين تُفرص علينا أدوات مكافحة تبييض الأموال، وقوانين وشروط صارمة غير مفروضة على الغير، لا على الصراف غير الشرعي ولا على السوبرماركت ولا الـ OMT، وبالتالي لا نتمتع بحرية الحركة التي توفرت لدكاكين الصرافة. وهذا ما جعل حتى المتداولين بالعملة يفضلون الصراف غير الشرعي. فكان بإمكان هؤلاء أن يجمعوا مليون دولار ولمصلحة مصرف لبنان من دون أن يُسألوا حتى عن مصدر الأموال وتحويلها.”
دور مصرف لبنان
أما تراجع تأثير هؤلاء فيقرنه النقيب أيضا بأسباب جوهرية، أولها مرتبط بدولرة الإقتصاد، على رغم تحذيره من مخاطرها. بالإضافة الى تدخلات مصرف لبنان البسيطة في سوق الصرف، من دون ضخ كميات إضافية من الليرة في السوق. وهذا ما يؤكد وفقا للمصري “أن الطرف الوحيد الذي كان يتحكم بالدولار وتسبب بإرتفاع سعره والمضاربات كان مصرف لبنان، وهو حالياً صاحب اليد الطولى في فرملة هذه الحركة.”
يتحدث المصري في المقابل “عن ظلم تعرض له الصرافون في المرحلة الماضية. إذ أن أصابع الإتهام توجهت اليهم بالتلاعب بالدولار. وصاروا متهمين بالتسبب بالأزمة، بينما المعادلة بسيطة، لإنتظام الوضع المالي نحتاج لإصلاحات إقتصادية.” ولذلك هو يعتبر “أنه في غياب الإصلاحات سيكون سعر الصرف معرضاً لما تعرض له في المرحلة الماضية بأي لحظة”.
تقاعس النقابة و…الجميع
في المقابل لم نسمع عن دور لنقابة الصرافين في خلق جسم يهدف الى حماية نفسه من المضاربات التي تعرّض لها، أو يهب أقلّه لتوجيه بوصلة الإتهامات للجهة التي يجب أن يتوجه اليها. يبرر المصري بأن الوضع العام الذي كان يتطلب تدخل النقابة لم يكن واضحا، وكان هناك جهل ببداية الأزمة لهوية الجهة التي تتلاعب بالدولار. حينها توجهت أصابع الإتهام الى الصرافين وقامت حملة توقيفات بحقهم، وكان كلما رفع أحدهم صوتاً، “تطب” عليه الأجهزة في اليوم التالي، ولذلك ربما صمت هؤلاء.
وإذ يرى المصري “أنه من الطبيعي عندما تحاول الأجهزة الأمنية القيام بعملها أن تذهب الى صاحب المؤسسة وليس حامل الشنطة. يعتبر في المقابل “أن لا أحد قام بمسؤولياته في هذه الفترة. لا الدولة ولا المصرف المركزي. وهذا ما جعل الفوضى تعم في هذا القطاع. لنكون أول ضحايا الفوضى كصرافين شرعيين. فنحن حوربنا من قبل الأجهزة الأمنية، وبنفس الوقت صارت صورتنا سوداء أمام الرأي العام بسبب الصرافين غير الشرعيين.”
لا شك أن لعاب بعضهم سال على الأرباح التي تجنى في أزمنة الفوضى. والصرافون ليسوا ملائكة بالأساس. وهم أيضا سعوا الى الارباح. إلا ان النقيب يعتبر “أن بيع وشراء العملات من حقهم، ويقع من ضمن أصول مهنتهم. المهم أن أياً منهم لم يتورط في أعمال المضاربة والكشف، التي كانت سببا بذبذبات الدولار”. موضحاً في المقابل أنه عند توقيف بعض من كانوا وراء التطبيقات تبين أن ليس بينهم صراف شرعي. ولذلك يعتبر المصري “أنه حتى الإعلام لم ينصف هؤلاء وربما يكون وقع ايضاً ضحية عدم الوضوح الحاصل.”
القنبلة الموقوتة
ولكن الى أي حد يتوقع النقيب أن يستمر هذا الهدوء في السوق؟
يقول النقيب “أهم مسألة قام بها الحاكم الحالي أنه فصل بين مالية الدولة والمصرف المركزي، قال انه لن يمول الدولة، ولتقوم الأخيرة بمسؤوليتها في وضع موازنة متوازنة. وهذه أوقفت النزيف مرحلياً. كما أن مصرف لبنان يوازن حالياً بين العرض والضخ، ويعرض الليرة على قدر ما يسحب الدولار، ولكن الى متى، لا أحد يعرف. دولرة البلد وتراجع الطلب على الليرة، له أيضاً دور أساسي، ولكن هذه قنبلة موقوتة لأنه بحسب الارقام الموجودة لدينا، لا نزال في عجز بقيمة 7 الى 9 مليارات دولار سنوياً. بينما إقتصادنا لا زال على ما هو عليه، الفساد لا يزال على حاله، الجباية لم تتحسن.”
تنظيم العمل النقابي
إلا أن الواقع حالياً هو كمن يضغط على النابض أو “الروسور”، ولن يعرف في أي إتجاه يمكن أن يذهب عند تحريره. ولذلك تحاول النقابة تنظيم نفسها من ضمن إنتظام الواقع المالي المطلوب دولياً. وفي هذا الإطار يمكن وضع اللقاءات المكوكية التي بدأها النقيب مع الصرافين الشرعيين في المناطق، لإعادة جمع أشلاء جسم الصرافين التي تناثرت خلال الأزمة.
وبعد اللقاءات التي أجراها في الشمال وجبل لبنان والبقاع وبيروت، يختتم الجولة في جنوب لبنان خلال الأسبوع المقبل.
والهدف الأول كما يشرح المصري “لم شمل الصرافين وجمعهم كجسم واحد للمطالبة بحقوقنا، وإيقاف التعديات على المصلحة، ومطالبة بوقف المضاربة والقرارات التي كانت تصدر عن مصرف لبنان، والهندسات السياسية السيئة، والتي تبين أنها ليست في مكانها.”
إلا أن التكتل المطلوب على ما يظهر هو للتصدي للدكانة التي صارت أقوى في الأزمة. كما أن تحرك الجسم النقابي يحاول أيضا إبعاد شبح “اللائحة السوداء العالمية” BLACK LIST ومخاطرها عن المؤسسات التي تتعاطى التداول بالعملة، ولا سيما بعد أن وضعت الخزانة الأميريكية عددا من الصرافين على هذه اللائحة، ومن بينهم أصحاب مؤسسات كبرى في شتورا. وعليه ربما يكون الوضع مؤات حالياً بعدما إختفى من الواجهة متصيدو الأزمة الذين تحولوا صرافين. ومن هنا يقول المصري “سنثبت للكل أننا مؤسسات، لدينا الأنظمة لمكافحة تبييض الاموال، وأنظمة التدقيق بالمحاسبة المكننة التطور، الحضارة. ”
فهل سينحج الصرافون بمنع المضاربة غير الشرعية في مهنتهم؟ يقول المصري أن الأمر يحتاج الى عمل تراكمي من قبل الاجهزة الرقابية، المصرفية، والأمنية، وتحركها يجب أن يكون استباقي لضبط الأمور. فيما إستقرار سعر الصرف لن يشكل عامل إغراء كاف لمضاربات غير شرعية في القطاع.”
في الأثناء يقول المصري “نحن نجهز بيتنا الداخلي لننضبط مجدداً من ضمن قوانين مصرف لبنان، والمصارف العالمية، وما يستجد في الأيام المقبلة. ولا شك أن التوجه الذي سيسلكه مصرف لبنان، وكذلك المجتمع الدولي لإعادة الإنتظام المالي والحفاظ على إستقراره، سينعكس علينا إيجاباً او سلباً.”