تشير أرقام نقابتي المهندسين في بيروت والشمال إلى تحوّل مستجد في قطاع البناء، وخصوصًا من ناحية عدد رخص المشاريع الجديدة الممنوحة لغاية شهر أيلول من هذه السنة، والتي سجّلت أعلى رقم يشهده القطاع في مثل هذه الفترة منذ ثلاث سنوات. فلأوّل مرّة منذ حصول الانهيار المالي، عاد عدد تراخيص مشاريع البناء الجديدة ليرتفع من جديد، نتيجة بعض التطوّرات النقديّة والماليّة، وبتفاوت كبير بين المناطق، بما يعكس تحوّلات ديموغرافيّة بالغة الأهميّة.
مع الإشارة إلى أنّ فورة البيوعات العقاريّة التي حصلت في أواخر 2019 بعد حصول الانهيار المصرفي، نتيجة سعي المودعين لاستعمال الشيكات المصرفيّة لشراء الشقق والعقارات، اقتصر مفعولها على زيادة المبيعات فقط، من دون أن يشهد قطاع البناء زيادة موازية في عدد المشاريع الجديدة منذ ذلك الوقت. بل على العكس تمامًا، استمر عدد المشاريع الجديدة المرخّصة سنويًّا بالتناقص بحدّة طوال السنوات الماضية. أمّا الجديد اليوم، فهو فورة مفاجئة في ترخيص المباني الجديدة، وهو ما يختلف تمامًا في مدلولاته عن فورة بيع العقارات، والشقق المتاحة في المشاريع القائمة.
منذ أربع سنوات، استمرّ عدد مشاريع البناء المرخّصة لغاية شهر أيلول من كل عام بالانخفاض: من 12.5 ألف رخصة سنة 2017، إلى 10.4 ألف رخصة سنة 2018، و8.99 آلاف سنة رخصة في 2019، وصولًا إلى مستوى غير مسبوق بلغ حدود 7.1 آلاف رخصة سنة 2020. قبل 2019، كان الانخفاض في عدد المشاريع الجديدة مدفوعًا بتعثّر القطاع ككل، وانخفاض مستوى الطلب على الأقسام السكنيّة، وخصوصًا في ظل توقّف قروض الإسكان. أمّا بعد 2019، فاستمر الضمور في عدد المشاريع الجديدة، بسبب التراجع السريع في أسعار الشقق بالدولار النقدي (بمعزل عن قيمتها بالدولار المصرفي أو اللولار)، وعدم توفّر الدولارات بيد معظم اللبنانيين.
هذا العام، عاد لأوّل مرّة عدد الرخص الجديدة ليرتفع إلى حدود 11,827 رخصة لغاية شهر أيلول الماضي، أي ما يفوق –للمرّة الأولى- مستويات الفترة المماثلة في العام 2018، وهو ما يعكس أثر ثلاث سنوات من الانخفاضات المتتالية. وبذلك، سجّل قطاع البناء ارتفاعاً قياسياً بنسبة 66% في عدد الرخص الممنوحة، مقارنةً بالسنة الماضية. أمّا المساحة الإجماليّة لهذه الرخص الجديدة، فشهدت هذه السنة بدورها ارتفاعاً كبيراً بنسبة 100%، ما يعني أنّ مساحات البناء المرخّصة قد تضاعفت هذا العام مقارنة بالعام الماضي.
التدقيق في هذه الأرقام يظهر أنّ عدد رخص البناء في بيروت اقتصر لغاية أيلول من هذه السنة على نحو 206 رخص، ما يشير إلى أن هذه المدينة بالتحديد لم تشهد أي انتعاشة تُذكر في عدد مشاريع البناء الجديدة. أما محافظة الجنوب، فارتفع عدد الرخص الممنوحة للمشاريع الجديدة فيها خلال هذه الفترة إلى 3,363 رخصة، مقارنة بـ2,016 رخصة خلال الفترة نفسها من العام الماضي، ما يشير إلى زيادة بنسبة 67% بين الفترتين. وعلى هذه النحو أيضًا، شهدت محافظة البقاع زيادة كبيرة بنسبة 75%، فيما هيمنت محافظة النبطيّة وحدها على خُمس رخص البناء الممنوحة في جميع أنحاء لبنان.
باختصار، ثمّة تفاوت كبير بين نسب الزيادة في رخص البناء التي شهدتها بيروت، وتلك التي شهدتها الأطراف والمناطق الريفيّة. وهذه الظاهرة تتصل بشح السيولة الموجودة بالدولار النقدي في السوق حاليًّا، والتي تجعل من شراء المساكن في العاصمة بيروت مسألة متعذّرة للغالبيّة الساحقة من الأسر اللبنانيّة رغم تراجع الأسعار، خصوصًا بعد أن انتقل تجّار البناء إلى طلب الدولار النقدي بدل الشيكات المصرفيّة في عمليّات البيع العقاريّة. أما تدنّي أسعار العقارات والشقق السكنيّة في الأطراف، فما زال يترك هامشاً معيّناً للطلب في هذه المناطق، وهو ما يفسّر هذا التفاوت.
ولعلّ هذا التفاوت في حجم الطلب على الشقق السكنيّة يمثّل اليوم أحد أوجه النزوح المعاكس، والذي يتمثّل في سعي شريحة واسعة من الأسر اللبنانيّة إلى الاستقرار خارج المدينة، وخارج بيروت الكبرى تحديدًا. وإذا كان تفاوت كلفة المعيشة يمثّل السبب الأساسي لنزوح الأسر الأكثر فقرًا، فتفاوت كلفة استئجار أو شراء المسكن يمثّل سبباً آخر للأسر التي مازالت تملك الحد الأدنى من مقوّمات العيش. مع الإشارة إلى أنّ الركود الاقتصادي لم يعد يمنح بيروت أي أفضليّة من ناحية فرص العمل المستجدة، وهي الأفضليّة التي كانت تدفع سابقًا الأسر للنزوح من الريف باتجاهها.
في الوقت الراهن، مازالت رسوم ترخيص عمليات البناء تتم وفقًا لسعر الصرف الرسمي، وهو ما يجعل نسبة هذه الرسوم –التي يفترض أنها عبء وازن على مطوّري البناء- زهيدة جدًّا قياسًا بكلفة المشروع الفعليّة بالدولار النقدي. ولهذا السبب تحديدًا، يستفيد اليوم مطوّرو العقارات وتجار البناء من هذا الوضع الهجين، لترخيص المشاريع الجديدة قبل أن يتم تصحيح طريقة احتساب رسوم تراخيص البناء وتسجيل العقارات، خصوصًا كون تجّار البناء انتقلوا إلى مرحلة استيفاء ثمن الأقسام السكنيّة بالدولار الطازج من زبائنهم.
وهكذا، مثّل هذا العامل تحديدًا أحد أسباب ارتفاع عدد الرخص الممنوحة في هذه السنة بالتحديدًا، في ظل التفاوت الكبير بين سعر صرف الدولار الفعلي في السوق الموازية وسعر الصرف الرسمي. مع العلم أن تصحيح طريقة احتساب الضرائب والرسوم يفترض أن يندرج قريبًا من ضمن خطة الحكومة الماليّة، التي يتم العمل حاليًّا عليها، ومن ضمن رؤيتها لتوحيد أسعار الصرف. وهو يدفع مطوري البناء اليوم إلى تسريع أعمال ترخيص جميع مشاريعهم المقبلة.