تحثّ الحكومة حاكم مصرف لبنان على معاودة اتّباع السياسة نفسها التي تحاسبه عليها اليوم، وهي سياسة حماية الليرة اللبنانية التي استنزفت احتياطي المركزي من العملات الاجنبية. فهل ما كان خطيئة بالأمس أصبح مطلباً حكومياً وشعبياً اليوم؟
تستمرّ الحكومة في اتّباع نهج المعالجات السطحية والنفسية لإقناع المواطنين بأنها قادرة، بالضغط أو بالتعاون مع مصرف لبنان على لجم هبوط الليرة نظراً لأنّ أسباب الأزمة برأيها، هي التلاعب بأسعار الصرف في السوق الموازية. وقد ذهبت السلطات الى أبعد من ذلك أيضاً، مستخدمة القمع ومتّبعة سياسة الحكم الدكتاتوري عبر توقيف الصرّافين والادّعاء عليهم وعلى مدير العمليات النقدية في مصرف لبنان مازن حمدان بجرم التلاعب بالعملة ومخالفة قانون الصيرفة وتبييض الأموال. وكأننا في حقبة يمكننا فيها معالجة أزمة العملة المحلية من خلال توقيف أو سجن بعض الاشخاص.
بصرف النظر إن كان الادعاء القضائي محقّاً أو لا، فإنه من الساذج الاعتقاد انّ مردّ أزمة الليرة هي المضاربة في السوق والتلاعب بالاسعار. الحقيقة واضحة كعين الشمس: لا توجد دولارات في السوق ولا في المصارف، بل فقط القليل منها في مصرف لبنان، لم تعمد الحكومة الى المخاطرة به لتجنّب تخلّف لبنان عن سداد ديونه الخارجية.
فكيف يظنّ البعض انّ مصرف لبنان قادراً فعلاً اليوم على التدخل في السوق كالسابق لحماية الليرة اللبنانية ولجم ارتفاع سعر صرف الدولار، وهو بالكاد قادر ضمن احتياطه الآخذ في التراجع، على تأمين الدولارات لاستيراد القمح والمحروقات والادوية؟
جلّ ما سيقوم به مصرف لبنان، هو استخدام الدولارات الواردة من الخارج عبر شركات تحويل الاموال، لدعم استيراد المواد الغذائية الاساسية فقط، أي الرز والسكر والحبوب والحليب… وذلك وفقاً لسعر صرف يبلغ 3200 ليرة.
وبالتالي، فإنّ الحديث عن تراجع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية قريباً في الاسواق، هو مجرّد وعود كاذبة، حيث انه في أحسن الاحوال، في حال تمّ دعم استيراد المواد الغذائية الاساسية (أي حوالى 10 أصناف فقط)، فإنّ أسعارها ستتراجع بنسبة 20 في المئة فقط ولن تعود الى معدلاتها المعهودة لأنّ استيرادها سيكون وفقاً لسعر 3200 ليرة وليس 1515 على غرار المحروقات والقمح والادوية. كما انّ اسعار تلك المواد ستتراجع بعد 4 أشهر وليس الاسبوع المقبل كما يعد المسؤولون، لأنّ المخزون الحالي والمستورد على سعر صرف يفوق 4000 ليرة، يلبّي حاجة السوق لغاية 4 أشهر.
إستنزاف الودائع المتبقية
أما بالنسبة الى وعد سلامة لرئيس الحكومة بالتدخل في السوق لحماية الليرة ولجم ارتفاع سعر صرف الدولار، فلقد اعتبر المستشار المالي مايك عازار انّ مصرف لبنان سيستخدم احتياطه المتبقّي من العملات الاجنبية للتدخل في سوق الصيرفة، أي الودائع المتبقية، بهدف خفض سعر صرف الدولار لفترة وجيزة فقط.
وأشار لـ»الجمهورية» الى انّ تجارب عدد كبير من الدول التي قررت بنوكها المركزية ضَخ الدولارات في السوق لمنع انهيار عملتها المحلية، أظهرت انّ النتيجة كانت استنزاف احتياطي البنك المركزي بسرعة تفوق التوقعات ومعاودة العملة المحلية الهبوط مجدداً.
وقال عازار انّ العلاج الجذري لارتفاع سعر صرف الليرة هو زيادة الطلب على الليرة، من خلال جذب الاستثمارات الخارجية وزيادة حجم الصادرات، أي تدفّق العملة الاجنبية الى لبنان، وهو أمر رهن باستعادة الثقة في البلد.
وأوضح انّ الدولارات التي سيضخّها مصرف لبنان في السوق لن توازي حجم الطلب الكبير، على الرغم من انّ الاخير سيتراجع نتيجة تأمين البنك المركزي العملة الاجنبية لمستوردي ومصنعي المواد الغذائية الاساسية والمواد الاولية التي تدخل في الصناعات الغذائية. ورأى عازار انّ تأمين الدولارات لاستيراد المواد الغذائية الاساسية سيؤدّي الى لجم ارتفاع سعر صرف الدولار وليس الى تراجعه، «أي انه على سبيل المثال، بدلاً من ان يرتفع الى 6000 ليرة، يمكن ان يستقر عند 4000 ليرة»، لافتاً الى انه من الأجدى دعم التجار فقط لاستيراد المواد الغذائية وليس ضَخ الدولارات واستنزاف احتياطي مصرف لبنان، لأنّ السيولة التي سيتم ضَخّها سيَمتصّها المضاربون وتجار المواد الاخرى والافراد بغرض تخزينها في المنازل.
عملية إنتحارية!
من جهته، اعتبر المتخصّص في عمليات الصيرفة والاستثمار عمر تامو لـ»الجمهورية»، انّ إقدام مصرف لبنان على ضَخ الدولارات في السوق هو بمثابة عملية انتحارية ستستنزف احتياطه من العملات الاجنبية ولن تؤدّي الى خفض سعر صرف الدولار كما هو متوقع، لأن ليس في مقدوره ضَخ سيولة توازي حجم الطلب الكبير. وفيما استبعد ان يُقدم مصرف لبنان على ذلك، قال انّ أي تدخّل في حال حصوله سيكون بمثابة «إبرة مورفين» لشراء بعض الوقت، لأنّ احتياطه لا يخوّله الاستمرار مطوّلاً في ضَخ السيولة بكميات كبيرة في السوق، فهو يلبّي حاجات البلاد الاساسية وفقاً لخطة الحكومة، لمدّة عام ونصف في الحد الاقصى. وبالتالي، فإنّ استخدامه لحماية الليرة سيسرّع نفاده.
في المقابل، أوضح تامو انّ مجرّد الاعلان عن نيّة مصرف لبنان التدخل في السوق، سيدفع بعض حاملي الدولارات الى بيعها قبل تراجع اسعار الصرف، وبالتالي سيزيد العرض في السوق قبل تدخل المركزي ويؤدي الى تراجع سعر صرف الدولار، «لكنّه علاج نفسي لن يدوم لفترة زمنية طويلة».
ورأى انّ دعم استيراد المواد الغذائية الاساسية هو أمر إيجابي سيخفف الطلب على الدولار في السوق بحوالى 100 مليون دولار شهرياً، لكنّه لن يكون كافياً لمنع ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، بل بالعكس سيعزّزه، خصوصاً في حال تمّ تقييد الصرافين الشرعيين ببيع 200 دولار فقط شهرياً للفرد الواحد، مما سيُضطرّ تجار المواد الاخرى للجوء الى السوق السوداء بحثاً عن الدولار بأيّ سعر كان.