يزداد المشهد المالي والاقتصادي تعقيداً، ربطاً بالمشهد السياسي العقيم. ومن خلال المؤشرات القائمة حالياً، يمكن القول انّ البلد ماضٍ الى مصير أشدّ سواداً في المرحلة المقبلة، اذا لم يحصل خرق على الجبهة السياسية، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية.
في الكواليس، هناك ما يشبه القناعة المطلقة بأنّ كل ما يجري اليوم، سواء في الداخل او على جبهة صندوق النقد الدولي، هو مجرد مضيعة للوقت، لأنه لا يوجد قرار او قدرة على الانتقال الى مرحلة جديدة.
هذه القناعة بات يشعر بها المُتعاطون في الشؤون المالية والاقتصادية، الذين هم على تماس مع الدوائر السياسية الفاعلة والمقررة. ومن خلال ما يمكن لمسه من هذه الدوائر، يُستنتج وجود ارادة بالابقاء على الامور كما هي، بانتظار ما في الغيب.
ما يغذّي احتمال الاستمرار من دون أي حل او تغيير، انّ بعض مَن يقبع في موقع القرار، بدأ يروّج لفكرة قدرة البلد على التأقلم مع الوضع القائم، لسنوات طويلة الى الامام. ويقدم هؤلاء مقاربة غريبة عجيبة لتبرير الاستمرار، تستند الى المعطيات التالية:
اولاً – انّ حجم الدولارات التي تدخل الى البلد، والمقدّرة بحوالى 8 مليارات دولار، بالاضافة الى ملياري دولار قد تؤمّنها القطاعات المنتجة، (صناعة، زراعة…) قد تكون كافية لخلق نوع من التوازن المقبول الذي يسمح لمصرف لبنان بامتصاص جزء من هذه الدولارات وإعادة ضخّها في الاقتصاد بطريقة او بأخرى.
ثانياً – مع الوقت، سيتمّ خفص الاستيراد بحيث يخفّ الضغط على ميزان المدفوعات، لأنّ بلداً بوضع لبنان وحجمه، ينبغي ألا يزيد حجم استيراده السنوي عن 10 مليارات دولار، مع احتساب الحاجة الى الاستيراد الاضافي بسبب وجود النازحين السوريين في لبنان.
ثالثاً – اقتصاد الفريش دولار، أي المؤسسات والمهنيين والموظفين الذين يتقاضون اموالهم بالفريش، والذين لم تتأثر مداخيلهم كثيراً بالأزمة، وباتوا يشكلون ما يُعرف باقتصاد الـ20 في المئة، سيساهمون في تحسين الدورة الاقتصادية. وهذا الامر بات واضحاً من خلال الحركة في مجموعة واسعة من القطاعات، من ضمنها القطاع السياحي والمطعمي. ومؤشرات المطاعم «المفوّلة» طوال ايام الاسبوع، ليست لوحدها ما يُبنى عليه للادعاء بأنّ اقتصاد الـ20 في المئة يكفي لتشغيل قسم من القطاعات، بل تُضاف اليه مؤشرات عودة بعض الاستثمارات، منها على سبيل المثال لا الحصر اعادة افتتاح فنادق كانت مقفلة منذ سنوات. صحيح انّ اصحاب هذه الفنادق قلّلوا من قيمة عامل الجدوى الاقتصادية لقرار اعادة العمل، وركّزوا على رغبتهم في مساعدة اللبنانيين على إيجاد فرص عمل اضافية، لكن ذلك لا ينفي وجود جدوى اقتصادية، وإلا لكنّا شهدنا اعادة الافتتاح قبل هذا الوقت، بل لما كانت هناك حاجة للاقفال أصلاً.
رابعاً – في هذا المشهد، الدولة هي الاشد فقراً، وعاجزة عن تسيير شؤونها. وبالتالي، لا بد من التركيز على ابتكار وسائل للحصول على اموال اضافية من اقتصاد الـ20 في المئة تحديداً. وقد تكون محاولة رفع ضرائب الدخل على اصحاب الرواتب بالدولار هي أول الغيث، ضمن محاولات كثيرة سوف تتكرّر في المرحلة المقبلة، بهدف تحسين الاوضاع المالية للدولة.
ضمن هذه الحقائق، يعتقد بعض مَن في يدهم القرار، انهم يستطيعون الاستمرار كما هو الوضع اليوم، لفترة طويلة قد تستغرق سنوات. ومثل هذا التفكير ليس عقيماً فحسب، بل ينطوي على مخاطر تغيير وجه لبنان الى الابد. الموضوع لا يرتبط بالقدرة على تأمين توازن بين الدولارات الداخلة والدولارات الخارجة، بل بالهيكل العام للبلد. اذ عندما يسقط قطاع التعليم، على سبيل المثال لا الحصر، يتغيّر شكل البلد من أساسه. كذلك عندما يسقط قطاع الاستشفاء وسواه من القطاعات المرتبطة بالكادرات البشرية المميزة. هذه القطاعات، ومن ضمنها القطاع المالي، هي التي منحت لبنان تَمايزه، وهي التي سمحت اليوم بدخول 8 مليارات دولار من اللبنانيين في الخارج. وإسقاط نقاط القوة هذه بذريعة انّ لبنان يستطيع ان يتحاشى المجاعة، وان يأكل ممّا توفّره له التحويلات، هو ضرب من الجنون والاجرام في حق اللبنانيين.
لكن أخطر ما في هذا التوجّه، هو انّ احتمالات استمراره كبيرة، وان البلد قد يخضع فعلاً لإرادة هؤلاء، ويستمر كما هو، متّجهاً نحو الدمار الشامل، من دون أن تكون لدى أصحاب النيات الحسنة والرؤية الصائبة القدرة على التدخّل لمنع هذه المأساة.