أتى تقرير «موديز» كالصاعقة على الطبقة السياسية خصوصاً مع المجهود الهائل الذي تُحاول القوى السياسية القيام به للجم العجز في موازنة العام 2019. إلّا أن ما غاب عن بالها، هو أن لبنان يحصد ما زرعه خلال أكثر من عقدين.
في غضون 14 سنة، إستطاع لبنان تسجيل أرقام قياسية في فراغ السلطة التنفيذية وخصوصاً على صعيد مجلس الوزراء، فقد بلغت فترة تصريف الأعمال أربع سنوات وتسعة أشهر. ولا يُخفى على أحد أنّ حكومات تصريف الأعمال لا تجتمع، ما يعني أن لا قرارات إقتصادية ولا مالية ولا إدارية. بمعنى أخر الإجراءات التي كان من الواجب على الحكومات أخذها لتوجيه النشاط الإقتصادي بهدف تعظيمه عملاً بنظرية «كنيز»، لم تُبصر النور. حتى حين كانت هناك حكومات أصيلة، كانت الصراعات الحزبية والمذهبية تأخذ الطابع الوجودي ليتمّ تعطيل عمل الحكومة وبالتالي قراراتها الإقتصادية والمالية.
كل هذا يعني أن لا خطط إقتصادية ولا إصلاحات مالية أو إدارية، ويأتي الفساد والمحاصصة الطائفية ليزيد من الإنفاق العام ومعه العجز في الموازنة والدين العام. والأصعب أنه في خلال أعوام المجد (2007 إلى 2010) بدل أن توجّه الحكومة المُستثمرين إلى القطاعات الإنتاجية الأوّلية والثانوية، قام القطاع الخاص بالبحث عن الربحية السريعة الموجودة في قطاع الخدمات المعروف عنه أنه ذو قيمة مضافة مُتدنّية في الإقتصاد.
اليوم وصلنا إلى ما نحن عليه، لكن هامش التحرّك لدى السلطة السياسية التي قرّرت أخذ زمام الأمور، أصبح ضيقاً وبالتالي هناك العديد من الخطوات التي تنتظرها الأسواق من الحكومة ومن المجلس النيابي.
الفترة التي واكبت مناقشة الموازنة تمّ فيها إرتكاب أخطاء «جسيمة» بحسب الأسواق المالية. فصندوق النقد الدولي الذي كان ينتظر رفع الضرائب والرسوم بالتوازي مع خفض الإنفاق ومحاربة الفساد والهدر، تفاجأ بغياب الضرائب والرسوم مع لجم خجول جداً للإنفاق وغياب شبه كلّي لإجراءات مكافحة الفساد والهدر. الجدير ذكره أنّ رسم الـ 2% على الإستيراد أصبح مُستبعداً مع الفيتو الموضوع عليه من أكثر من كتلة نيابية وازنة. وبالتالي بإستثناء رفع الضريبة على فوائد الحسابات المصرفية، أصبحت الموازنة من دون أيّ إجراءات ضريبية.
أمّا البنك الدوّلي فلم يتردّد لحظة بلفت نظر السلطة للمخاطر التي تعصف بلبنان نتيجة تخلّيها عن سياستها الإقتصادية والإعتماد على السياسية النقدية لتمويل حاجات الدّولة من الأموال. وهو الذي قال أكثر من مرّة أنّ المصرف المركزي أنقذ لبنان في أحلك الظروف لكن على الحكومة العمل على تحفيز الإقتصاد.
مؤتمر سيدر الذي تتمّ مُهاجمته من البعض، له حسنة أساسية وهي القيام بإصلاحات بالشراكة مع القطاع الخاص. هذا الربط بين الإصلاحات والقطاع الخاص ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج خبرات عشرات الدول وآلاف الخبراء الإقتصاديين. الإصلاح يعني محاربة الفساد، تقليل الهدر، وخفض كلفة الإنتاج. أمّا القطاع الخاص فيعني الإستثمارات بالإضافة إلى إستخدام أفضل الوسائل في النشاط الإقتصادي.
وكالات التصنيف الإئتماني لها دور مُختلف عن باقي المؤسسات الدولية. فهدفها الأساسي والوحيد إعطاء صورة واضحة عن إقتصاد البلد وماليته العامة ونقاط القوة والضعف فيه. وبما أنّ الموازنة هي المُستند القانوني الأول الذي يُجسّد السياسات الإقتصادية، المالية، الضريبية، البيئية والإجتماعية للحكومات، من الطبيعي أن تتكاثر التقارير الصادرة عن وكالات التصنيف الإئتماني. وإذا كان مُحتوى دراسات هذه الوكالات لا غبار عليه من ناحية الدّقة العلمية، إلّا أنه من المُمكن أن تكون العبارات المُستخدمة لا تحمل الكثير من الموضوعية ويُمكن إثارة الجدل حولها. التقارير النابعة من وكالات التصنيف الإئتماني ومكاتب الدراسات حذّرت أكثر من مرّة من الوضع المالي والإقتصادي في لبنان، وبإعتقادنا هذه التحذيرات كانت تهدف قبل كل شيء إلى تصويب عمل الحكومة.
على كلٍ تقرير موديز الذي ظهر الأسبوع الماضي، يحمل في طياته ثلاث رسائل واضحة إلى السلطة السياسية في لبنان:
أولاً – الإجراءات المُتخذة في الموازنة هي إجراءات غير كافية خصوصاً في ما يخص مكافحة الفساد والهدر، أضف إلى ذلك غياب أيّ تحفيز للنمو الإقتصادي وغياب خفض هيكلي للعجز في الموازنة. ما يعني أنّ العجز المُتوقّع لن يكون 7.59% بل أعلى من ذلك؛
ثانياً – ضعف النمو الإقتصادي مع خفض الإنفاق الجاري (خفض غير مُستدام!) يجعل من التدفقات المالية عنصراً أساسيّاً في تمويل عجز الموازنة وإستحقاقات الدين العام وشراء البضائع بالعملات الصعبة. وبما أنّ نمو هذه التدفّقات تراجع، لذا ستزيد الضغوطات على مالية الدولة أكثر؛
ثالثاً – إنطلاقاً من النقطتين السابقتين، قامت موديز بحساب إحتمال «إعادة جدولة الدين العام» ووجدت أنّ هذا الإحتمال إرتفع مع المعطيات الجديدة.
هذه النقاط الثلاث، هي إنتقاد واضح للأداء في تحضير الموازنة ولكن أيضاً لغياب الشق الإقتصادي. وبالتالي تُشكّل رسالة إلى السلطة السياسية وليس للأسواق المالية التي لم تتفاعل مع هذا التقرير وبالتحديد سوق سندات الخزينة اللبنانية بالدولار الأميركي (يوروبوندز) الذي يعرف جيداً قراءة تقارير وكالات التصنيف الإئتماني.
هل تُخفّض موديز تصنيف لبنان الإئتماني؟
هناك سيناريوهان مُحتملان: الأول وهو الأكثر إحتمالاً وينصّ على خفض الرؤية المُستقبلية للبنان من مُستقرّ إلى سلبي ليُصبح تصنيف لبنان الإئتماني «Caa1 مع نظرة مُستقبلية سلبية». والثاني وهو أقلّ إحتمالاً وينص على تخفيض تصنيف لبنان إلى «Caa2 مع نظرة مُستقبلية مُستقرّة».
السيناريو الأول هو الأكثر إحتمالاً نظراً إلى عدد من المُعطيات الإيجابية وعلى رأسها العجز المُحقّق في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2019 (أقلّ من مليار د.أ بحسب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة)، إحتمال عال لبدء تحرير أموال مؤتمر سيدر (بعد إقرار الموازنة)، التصريح القطري برغبة المسؤولين تنفيذ وعودهم المُعطاة في قمّة بيروت الإقتصادية، تأكيد حاكم مصرف لبنان من أنّ السيولة ستزيد في الأشهر الست المقبلة، قرب موعد بدء التنقيب عن الغاز في البحر اللبناني، والأهم موقع لبنان في الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
كل هذه العوامل تدفعنا إلى القول إنّ تصنيف لبنان لن يتبدّل بل إنّ الرؤية المُستقبلية هي التي ستنخفض نظراً إلى الأخطاء التي تُرتكب ومنها قضية الـ 11 ألف مليار ليرة بفائدة 1% والتي قرأتها موديز بشكل سلبي جداً نظراً إلى عدم واقعيتها.