على عكس الصندوقين الاسودين المتناغمين في الطائرات، اللذين يسجلان البيانات الرقمية والاصوات لمعرفة الحقيقة في حالات الكوارث، قدّم لبنان صندوقين متناقضين، لا يقدمان أي جواب عن مصير الاموال المتبخرة. فلا صندوق الدولة الاستثماري، ولا صندوق تخفيف الديون المصرفي، برّدا قلوب اللبنانيين، وقدما حلاً منطقياً لتخفيف الديون وإنصاف المودعين.
ترتكز فكرة الصندوق الحكومي على اقتطاع نسبة مئوية من أموال المودعين الذين استفادوا من الهندسات المالية والفوائد المرتفعة ووضعها في “الصندوق”، بعد شطبها من الحسابات المصرفية. نسبة الاقتطاع لم تحدد بعد، ولم يعلن كذلك عن الشريحة التي سيطاولها “مقص الشعر”. كل ما عرف لغاية الآن هو ان المودعين سيساهمون بنسبة 28 في المئة من تحمّل الخسائر. النسبة المقتطعة من اموال المودعين ستتحول إلى أسهم. أما تعويضها فسيكون من خلال موارد الصندوق المتأتية من استعادة الاموال المنهوبة وعوائد بعض الاصول الحكومية.
صندوق المصارف
على مقلب المصارف الآخر، برزت فكرة الصندوق الحكومي لتخفيض الدين GDDF. تُوضع في الصندوق أصول عامة ومنشآت تابعة للدولة كالواجهة البحرية وشركات الاتصال وغيرها من المرافق بقيمة تبلغ 40 مليار دولار أميركي. وبهذا ينخفض الدين العام بقيمة الصندوق ويحصل مصرف لبنان المُصدر لسندات الدين على الفوائد الناتجة من عمل المؤسسات الموضوعة فيه.
لا أثر لأموال المودعين
في كلا الحالتين تبقى الفجوة المقدرة بنحو 63 مليار دولار مكشوفة. فانتظار ملء الصندوق الحكومي بالاموال المنهوبة ومكافحة الهدر والفساد وبعض الاصول التي لم تحدد بعد، يبدو طويل الامد، إن لم يكن مستحيلاً. وعليه فان قيمة الاسهم التي سينالها المودعون لن ترتفع ولن يستطيعوا بعشرات السنين تعويض خسارتهم. هذا بالاضافة الى صعوبة التمييز بين المودعين الذين استفادوا من الفوائد تاريخياً، وأولئك الذين قد لا يكون مضت على وديعتهم أشهر قليلة. أما طرح المصارف فيصطدم بعقبتين اساسيتين. تتمثل الاولى في قيمة عوائد الصندوق التي لن تتعدى بحسب الخبير الاقتصادي باتريك مارديني الـ 250 مليون دولار سنوياً. والعقبة الثانية هي في التضحية بأصول تعود ملكيتها إلى كل الشعب اللبناني من اجل تعويض مودعين لا يزيد عددهم عن 21 ألفاً و 500 مودع، أو ما نسبته 1 في المئة من مجموع المودعين، هذا إذا اعتبرنا ان الاقتطاع سيطاول الحسابات التي تفوق قيمتها المليون دولار اميركي.
أمام هاتين الازمتين يقول رئيس تجمع رجال الاعمال اللبنانيين فؤاد رحمة ان “اعتبار كبار المودعين هم المسؤولون عن الازمة خطأ شعبوي. فالاموال المتبخرة ذهبت إلى دعم الليرة اللبنانية مقابل الدولار، والمحافظة على سعر الصرف وحماية الاستقرار الاجتماعي خلال العقود الثلاثة المنصرمة وتمويل دعم عجز ميزان المدفوعات. وفي جميع الحالات فان الاجراءات كانت تنال موافقة كل ممثلي الشعب في المجلس النيابي عبر توقيعهم على الموازنات. من هنا فان المسؤولية الاخلاقية تقتضي مساهمة الجميع بالحل عبر bail out، واستخدام اصول الدولة لاطفاء الخسائر الماضية والمساهمة باعادة رسملة القطاع المصرفي”.
التعويض ممكن ولكن!
رغم الجهود المبذولة يبدو ان حوالى 114 مليار دولار من ودائع العملات الاجنبية المقومة بالدولار الاميركي أصبحت في خبر كان لأجل غير مسمى. وما هندسات بعض المصارف الخاصة التي تعمل على مضاعفة قيمة الدولار الطازج واعطاء مكانه شيكاً مصرفياً بقيمة 2.5 مرة، إلا خير دليل على فقدان العملة الصعبة بشكل نهائي. وهذا ما يقودنا الى السؤال الجوهري هل يمكن التعويض على المودعين وكيف؟ ومقابل أي ثمن؟ هل الهيركات حتمي؟
المصرفي نيكولا شيخاني يرى ان “التعويض ممكن والثمن زهيد، لكن بشرط وحيد وهو تنفيذ حزمة من: استعادة الاموال المنهوبة، اعادة رسملة المصارف بنسبة 20 في المئة، استعادة ما دفع من فوائد وارباح خيالية للمودعين وكبار المساهمين في المصارف، قبل الشروع بعملية Haircut، كما ورد في الخطة الحكومية”. لكن هذه العملية “لا تكون بالاقوال انما بالافعال. ومن خلال تحديد مؤشرات الأداء الرئيسية KPIs وربطها بجدول زمني، وافصاح دوري عن الانجازات المحققة”. وضع هدف استعادة الاموال المنهوبة قبل الشروع بالاقتطاع من الودائع ليس عاملاً اخلاقياً فحسب، انما اهميته برأي شيخاني تكمن “في انخفاض نسبة المبالغ الواجب اقتطاعها من المودعين من حوالى 50 إلى 60 في المئة إلى أقل من 20 في المئة. وهي خسارة محمولة ومقبولة”.
في حال الشروع بهذا الاصلاح المفصلي الذي لا يتطلب وقتاً طويلاً، تصبح حظوظ الخطة الحكومية بالنجاح اكبر من البديل الذي طرحته المصارف. فبحسب شيخاني فان “معالم خطة المصارف غير واضحة لجهة تحديد كيفية تسكير العجز والتعويض عن المودعين. والاخطر انها تغاضت عن الربح الصافي المحقق بين 2016 و2018 والمقدر بنحو 12 مليار دولار، والذي وزع منه 6 مليارات دولار على المساهمين. فهل هم على استعداد لارجاعه؟
المدخل بالاصلاح
النية الصادقة باسترجاع الاموال المنهوبة والفوائد الفاحشة والارباح المشكوك بصحتها والدخول مباشرة بالاصلاح من دون مماطلة، لا تتطلب سن القوانين ورفع الدعاوى القضائية وانتظار عشرات السنين. فمن الممكن، من وجهة نظر شيخاني، تقصير المدة الزمنية والتوصل الى تسويات مع المطالبين بدلاً من الدعاوى التي تتطلب وقتاً طويلاً، وعقد صفقات بالتراضي على غرار ما حصل في غواتيمالا- فرنسا وغيرها الكثير من الدول”.
بدلاً من القاء التهم بين الحكومة و”المركزي” وجمعية المصارف ورمي كل طرف المسؤولية على الطرف الآخر، يجب ان تنصب جهود الجميع على توحيد الارقام والرؤية. فمن غير المقبول من صندوق النقد الدولي عدم وجود ارقام موحدة واكثر من خطة، خصوصاً ان مساعدته رهن بموافقة مختلف الاطراف وتوحيد توجهاتهم.