للأسبوع الثاني على التوالي توقّف الانخفاض اليوميّ المتتالي لقيمة الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة، ليتراوح سعر صرف منصّة مصرف لبنان بين 20,300 و20,200 ليرة للدولار الواحد. وبذلك، يكون المصرف المركزي قد ثبّت خفض سعر الدولار، التي بدأت مع تدخّل المصرف في سوق القطع في منتصف كانون الثاني الماضي، ليدخل مرحلة الدفاع عن سعر الصرف الجديد. وحتّى اللحظة، لم يتضح ما إذا كان هذا التحوّل قد نتج عن تخطيط مسبق، أو عن عجز مصرف لبنان عن الاستمرار بضخ الدولار بالوتيرة نفسها. لكن الأكيد، هو أن اللجوء إلى سياسة تثبيت سعر الصرف أو الدفاع عن سعر صرف معيّن على المدى المتوسّط، بمعزل عن أي خطّة تعافي مالي شاملة، لن تعني سوى استنزاف بطيء ومستمر في احتياطات المصرف المركزي.
في ما يتعلق بحجم التداول، تجاوز حجم عمليّات القطع التي تمّت عبر المنصّة حدود 309 مليون دولار أميركي، ما يشير إلى أن المنصّة ما زالت حتى اللحظة قادرة على الحفاظ على وتيرة عمليّات نشطة، بما يسمح باستيعاب الطلب على الدولار في السوق. لكنّ الملفت هو تصاعد حجم عمليّات القطع من حدود 50 مليون دولار أميركي في بداية الأسبوع، إلى 75 مليون دولار أميركي في نهايته، ما يشير إلى تريّث السوق في بداية كل أسبوع قبل إتمام عمليّات القطع، في انتظار تبلور اتجاه سعر صرف دولار المنصّة. مع الإشارة إلى أنّ نمط الارتفاع التدريجي في وتيرة عمليّات المنصّة خلال أيام الأسبوع بات ظاهرة تتكرّر أسبوعياً.
تكمن إشكاليّة العودة إلى نمط تثبيت سعر صرف الدولار، أو محاولة الدفاع عن سعر الصرف ضمن حدود معيّنة، في أن ذلك يعني عمليًّا استعادة السياسة النقديّة التي دأب عليها مصرف لبنان منذ التسعينات ولغاية تشرين الأوّل 2019. وهي تحديدًا السياسة التي كبّدت احتياطات المصرف المركزي فجوة الخسائر التي تدفع البلاد ثمنها اليوم. فالدفاع عن سعر صرف معيّن، مع عجز كبير في ميزان المدفوعات، لا يعني سوى تبديد احتياطات العملة الأجنبيّة المتوفّرة في عمليّة تثبيت سعر الصرف، عبر التدخّل وبيع الدولار بهذا السعر في السوق.
الفارق الوحيد اليوم، هو أنّ مصرف لبنان امتلك في الماضي الحد الأدنى من تحويلات العملة الصعبة الواردة إلى النظام المصرفي، التي تسمح بتغذية احتياطه، فيما لا يملك مصرف لبنان اليوم ما يمكن الرهان عليه، باستثناء ما يمكن شراءه من دولارات من خلال شركات تحويل الأموال. بمعنى آخر، لا تعني سياسة الدفاع عن سعر الصرف الثابت اليوم سوى تسارع وتيرة استنزاف الاحتياطات، بغياب الخطة الماليّة الشاملة التي يفترض أن تقود البلاد للخروج من حالة الانهيار المالي.
السؤال الأساسي اليوم: إلى متى سيتمكّن مصرف لبنان من الحفاظ على وتيرة تدخّله في السوق، بعد أن لجم تدخّله وتقلّصت أهدافه من خفض سعر صرف الدولار إلى تثبيته عند حدود معيّنة؟ بعض المصادر المصرفيّة تشير إلى أن “صفقة” سلامة مع السلطة السياسيّة، وتحديدًا مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، تضمّنت تعهّده محاولة الحفاظ على تدخّله حتى حصول الانتخابات النيابيّة، في محاولة لمواكبة عمل الحكومة بالتوازي مع مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي، وللحفاظ على الحد الأدنى من الرضا الشعبي على عمل الحكومة. لكنّ هذا التعهّد يعني من الناحية العمليّة حاجة سلامة إلى ضوء أخضر سياسي للاستمرار باستنزاف الاحتياطات الإلزاميّة المتوفّرة لديه، من أموال المودعين، في عمليّة التدخّل في سوق القطع.
في خلاصة الأمر، النتيجة الوحيدة المتوقّعة في غياب أي رؤية نقديّة تصحيحيّة شاملة هي فقدان مصرف لبنان في مرحلة من المراحل القدرة على الاستمرار بالتدخّل في السوق، سواء قبل أو بعد الانتخابات النيابيّة، ما يعيد الأمور مجددًا إلى نقطة الصفر.