إهراءات الحبوب التي دمّرها انفجار المرفأ في الرابع من آب الماضي ترمز الى تهديد الأمن الغذائي في لبنان، بحسب دراسة حديثة لـ«أسكوا» أوصت بضرورة إعطاء الأولوية لإعادة إعمارها سريعاً. علماً أن الإهراءات، حتى قبل وقوع الكارثة، لطالما كانت مؤشراً إلى غياب هذا الأمن في بلد يعتمد أساساً على الاستيراد والتخزين لتأمين غذائه!
وبعد تقارير حديثة للبنك الدولي أشارت إلى أن نصف اللبنانيين باتوا تحت خط الفقر، يبدو غريباً جداً أن تعطي دراسة حديثة للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (أسكوا)، الأولوية في توصياتها لإعادة بناء أهراءات الحبوب التي دمّرها انفجار المرفأ. فهذه، رغم أهمية إعادة بنائها، تُعتبر واحداً من رموز السياسات الخاطئة في التركيز على استيراد الغذاء بدل الاهتمام بالإنتاج ودعم الزراعة! فيما بدا لافتاً، أيضاً، إغفال الدراسة تشريح المعضلة الخطرة المتمثّلة في ضعف موازنات وزارة الزراعة (0,36 من موازنة 2020)، مكتفية بالإشارة إلى ذلك من دون شرح أو تحليل.
الدراسة التي صدرت نهاية آب الماضي بعنوان «هل من خطر على الأمن الغذائي في لبنان؟»، «تسلّم»، كما في كل الدراسات السابقة، بأن لبنان يعتمد بشدة على الواردات الغذائيّة لتأمين حاجات سكانه. وبعد الانفجار الذي دمّر جزءاً كبيراً من مرفأ بيروت، المنفذ الرئيس لدخول البضائع إلى البلد، وانهيار قيمة العملة بنحو 78%، وتدابير الإقفال التي اتُّخذت لاحتواء جائحة «كورونا»، والارتفاع الحاد في معدلات الفقر والبطالة… «فقد يتعذّر على نصف السكان الوصول إلى احتياجاتهم الغذائية الأساسية بحلول نهاية عام 2020». ولفتت الى أن تراجع قيمة الليرة أدّى إلى تضخّم كبير يتوقع أن يتجاوز متوسطه السنوي 50% عام 2020 في مقابل 2.9% عام 2019. «وفي تموز 2020، ارتفع متوسط سعر المنتجات الغذائية بنسبة 141% مقارنة بتموز 2019، مع توقع مزيد من الزيادة في أسعار الأغذية مع ارتفاع كلفة استيرادها بعد انفجار المرفأ، وانعدام الثقة بإدارة عمليات تأمينها وإتاحتها، ما قد يزيد من الشراء بدافع الذعر». علماً أن الدراسة لم تتطرّق إلى مزيد من التراجع المتوقّع في قيمة الليرة، ولا إلى احتمال رفع الدعم عن المحروقات، وهو ما يتسبب عادة في مزيد من رفع الأسعار.
إلى ذلك، اكتفت «أسكوا» بإعطاء الأولوية لإعادة بناء أهراءات الحبوب في المرفأ لأهميتها للأمن الغذائي الوطني، ولإعادة تأهيل مستودع الأدوية المركزي، وضمان إمداد الفئات الأكثر عرضة للمخاطر بالأدوية الأساسية واللقاحات، والمطالبة بتشديد المراقبة على أسعار الأغذية وتحديد سقفٍ لأسعار الأساسية منها، وتشجيع البيع مباشرة من المنتجين المحليين إلى المستهلكين.
وحذّرت من ارتفاع كلفة الإنتاج الزراعي بنسبة تفوق 50% لمختلف الأنظمة الزراعية، ما سيحدّ من الإنتاج الزراعي المحلي في المدى القريب. وأشارت إلى أن المزارعين اللبنانيين يفقدون نحو 30% من منتجاتهم تلفاً بسبب ضعف المهارات الفنية ونقص البنى الأساسية اللازمة… إلا أنها، وللمفارقة، لم تتطرّق إلى الخلل البنيوي في السياسات التنموية في لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية وبدء مرحلة إعادة البناء. وهي سياسات أدت إلى إنفاق أكثر من 40% من الموازنات الحكومية على البنى التحتية، مع إهمال فادح للقطاعات الإنتاجية وعلى رأسها الزراعة. فيما أُنفق أكثر من ثلث هذه الموازنات على الأسلاك العسكرية والأمنية، في وقت لم تتجاوز حصة الزراعة الـ 0,030% من الموازنات العامة. وهذا ما يفسر «هجرة» كثيرين للقطاع الزراعي حيث لا تأمين صحياً ولا ضمان شيخوخة، إلى الأسلاك العسكرية التي تؤمن هذه الخدمات لمنتسبيها، إذ لم تربط أيّ من الحكومات المتعاقبة يوماً بين سياسات التنمية في قطاعاتها كافة، ولجأت دائماً إلى محاصصة الإنماء طائفياً عبر ما يُسمى «الإنماء المتوازن» بدل «المتكامل»، ولم تأخذ بالمفهوم الشامل للأمن الإنساني الذي يدمج بين الأمن الغذائي والبيئي والصحي وسياسات الطاقة والنقل والإسكان وتوزّع السكان، بما يساعد المزارعين على البقاء في قراهم مع تأمين ظروف عمل أفضل وشبكة نقل عامة أحدث وسياسات إرشادية تحرّرهم من استغلال تجار المبيدات والكيميائيات وتساعد في تصريف الإنتاج… وهذا كله، وليس إعادة بناء الأهراءات فقط، المدخل الصحيح لتأمين الأمن الغذائي والاجتماعي.