على بعد أمتار من السفارة الكويتية، قبالة يافطة كتب عليها «بدنا نحمي الراية الصفرا»، سوق مركزي للخضار، العاملون فيه غاضبون، وأصواتهم تصدح: نحن سنّة بيروت فلا تتحدونا. هناك، تتراكم منذ نحو شهر أحداث همومها أبعد من بطيخ وبطاطا وبندورة وخيار وليمون للعصير. هناك قصّة تُنذر بأن الآتي قد يكون اعظم.
بدأت القصّة برسائل يبعثها رئيس بلدية الغبيري معن الخليل يومياً – منذ ثلاثة أيام- يعلن فيها أنه ستتمّ الإضاءة على عمل نقابة تجار سوق الخضار المركزي في الغبيري ومصادرتهم لحقوق بلدية الغبيري وحقوق اهالي الغبيري. الموضوع ملفت، فيه حقوق واعتداءات وخضار وفاكهة وأهالٍ وأبطال وحراميي. فماذا يحدث هناك؟ ولماذا تذكّر «الريس معن» اليوم سوق الخضار؟ هل إستفاق عليه كما يستفيق عادة على نادي الغولف في نطاقه البلدي؟
الخليل وصف ما يحدث في السوق «بمغارة من مغارات الفساد» معتبراً «ان نقابة معلمي وتجار الخضار والفاكهة بالجملة في بيروت» التي تدير سوق الخضار المركزي «تتحدى الإجراءات البلدية وتمنعها من استيفاء الرسوم وإزالة التعدي عن العقار المخصص للبلدية» ولفت إلى ان السوق «يحتل» مساحة 7212 متراً مربعاًَ، تزيد عن مساحة عشرين الف متر مربع أعطيت له من العقار 3016 وهو ملك الدولة» وتابع: «يعتدي السوق على عقار ملك بلدية بيروت رقمه 4517 وعلى عقار مشترك بين بلديات الغبيري وحارة حريك والشياح مساحته 2450 متراًمربعاً». وأردف الخليل كلامه بصور تُظهر بقايا الخضار وسط الطريق العام أمام سوق الخضار وذلك، على حد قوله، «تحديا لإجراءات البلدية».
تعديات تعديات… تجعل «السامع» يغضب في دولة قائمة، من زمان وزمان، على فساد. لكن، هل حدث ذلك للتوّ؟ هل السوق إنتقل حديثاً الى موقعه الحالي واكتشف الريّس النشيط أفعال «أهل السوق»؟
أربعون عاماً في السوق
توجهنا الى السوق. رائحة كريهة تفوح. ثلاثة مداخل تقودنا الى قلب السوق. ورجال يبحثون آخر التطورات «الخلافية»، بشكل يبدو أدق ربما من المحادثات حول خط التفاوض 29 وخط 23. ويافطة مطلة على السوق مذيلة بعبارة: «سنخوض البحر معك» مع رسم السيد حسن نصرالله. دخلنا الى السوق. رؤوس البطيخ كثيرة. رؤوس بندورة وشمام وليمون وبطيخ أصفر وباذنجان… و»كونتينر» يضمّ رجالاً، عددهم يزيد عن أصابع اليدين، غاضبين ساخطين ممتعضين أصواتهم أعلى بكثير من وحدات الديسبيل التي يقاس بها معدل الصوت. نقيب معلمي وتجار الخضار والفاكهة بالجملة في بيروت هو محمد رستم القيسي. أما المعلمون فبالعشرات. ومن دون أن نطرح سؤالا يتكلمون معاً وهم يتناولون حبات الكرز «باب أول». تضم النقابة 12 عضواً. والمعلمون والتجار أتوا الى هذا السوق منذ أربعين عاماً، تحديدا منذ العام 1982، أيام الرئيس شفيق الوزان. يومها تقرر نقل سوق الخضار المركزي الموجود في منطقة الريفولي في بيروت الى هنا. أتينا بقرار من مجلس الوزراء، بعدما شغلنا فترة من الزمن مساحة تحت جسر سليم سلام، ثم ارتأى رئيس بلدية بيروت آنذاك شفيق السردوك مع شفيق الوزان أن ننقل سوق الخضار الى هذا العقار الذي يمتد من السفارة الكويتية الى الكولا. أعطونا جزءاً من هذا العقار لإنشاء سوق خضار موقت. بلدية بيروت هي التي تسدد إستثماره الى الدولة اللبنانية. ومن يومها ندفع رسوم بلدية. كنا ندفع أيام أبو سعيد الخنساء 280 ألفا. ثم اتفقنا مع البلدية في العام 2016 على رفع القيمة الى مليون ونصف المليون عن كل محل. ويوجد 167 محل خضار، يعني ندفع ما مجموعه 243 مليون ليرة لبنانية سنوياً. سددنا ما علينا للعام 2020 لكن معن الخليل لم يرسل جداول التكليف في 2021 و2022. وها قد دبّ الخلاف بيننا اليوم».
نشعر وكأن بعض ما يحصل مع نادي الغولف يتكرر مع سوق الخضار والفاكهة في بيروت. فهل السبب أن البلدية تشعر بأن ما تتقاضاه رسوماً سنوية أقل من الحقّ الطبيعي بعد ارتفاع الدولار أم أن هناك امراً آخر؟
معلمو الخضار والفاكهة في سوق الجملة المركزي في بيروت يذهبون أبعد بكثير من ذلك. إنهم يتحدثون عن «طوائفية» أبعاد الحدث. فماذا في مضمون ما يحدث؟ وهل صحيح انهم هم من رموا النفايات على قارعة الطريق كما يتهمهم معن الخليل؟
يتحدثون عن هنغار ازرق قريب قائم على عقار مملوك من آل مقبل. ويوم أنشئ السوق هنا، في العام 1982، كانت هناك نحو اربع او خمس غرف مشغولة من عمال. الآن وضع رئيس البلدية يده على تلك الأرض، وحصل على توقيع من كل من وزير المال ووزير الشباب والرياضة، واعتبر ان المنطقة والأرض له، تحت حجة انه يريد ان يجعلها مرأباً لشاحنات ومركبات بلدية الغبيري. وحين حصل على التوقيعين بدّل رأيه قائلا انه يريد تحويلها الى شركة تسبيخ النفايات، لكنه اعتبر ان تلك الأرض صغيرة لذلك ويحتاج الى مساحة 500 متر من سوق الخضار ليضمها الى تلك الأرض. هذا لبّ الموضوع.
لكن، أليست المساحة كبيرة ويمكن الإستغناء عن قسم منها؟ يجيب «معلمو» الخضار والفاكهة بصوتٍ يكاد يكون واحداً: «لا، لا يحق له ذلك لأن هذه الأرض هي لبلدية بيروت التي تدفع استثمارها الى الدولة اللبنانية، وهي بالكاد تكفينا. الأرض مخصصة لنا ولا يمكن تخصيص التخصيص واستثمار الإستثمار. لكن، ما يحصل ان رئيس البلدية يملك عقلاً غريباً عجيباً. فهو لا ينظر ولا يعير اهتماماً الى كل المخالفات في العقارات المحاذية لنا ولا يبالي إلا بنا. هو «ما بيسترجي يحكي» مع المخالفين ولا يستقوي إلا على رزق المدينة. هذا سوق ليس هيناً ابداً واللعب مع اركانه لا يمر مرور الكرام. طلبنا من معن الخليل مراراً مراجعة بلدية بيروت، صاحبة الإستثمار، لكنه لم يستوعب. وبالآخر، توقفت البلدية منذ 15 يوماً عن رفع نفايات السوق. هو ملزم برفعها. وهو عمد الى تصوير النفايات التي يرميها السكان في المستوعبات القريبة مصوراً إياها من بقايا نفايات السوق. هو يقوم بنكايات ليقول للعالم أننا «أوباش». نحن البلد. نحن سوق الخضار المركزي الذي يساعد المزارع ليبيع محصوله الزراعي. إذا توقفنا نحن اخترب بيت المزارعين في لبنان. نحن السلطة الثانية في البلد. لكن، للأسف اخواننا في سوق الخضار ما زالوا يسايرون رئيس البلدية، على إعتبار أنه يملك غطاء من «حزب الله» والأحزاب والقوى الوطنية الموجودة في المنطقة. ولولا ذلك لأقفلوا الطريق واحرقوا الدواليب ومنعوه من العبور.
يكثر الكلام في السوق عن من يريد أن «يبيع ويشتري» بأرزاق الناس. ننظر حولنا، بين أرتال النفايات المشلوحة، فنرى لبنانيين ولبنانيات يمسكون أكياس نايلون ويعبئون البندورة المرمية والجزر والليمون. هي زادهم اليومي. هو مشهد يتكرر يومياً. وما رأيناه جعلنا نتأكد أن الناس في مكان والمسؤولين في مكان آخر مختلف تماماً.
ألحلّ أن يحلّ عنّا
يتذمر معلمو وتجار الخضار والفاكهة في السوق المركزي من نوايا رئيس البلدية تجاههم ويجزمون بأنهم لن يسمحوا له بتوسيع اعماله داخل السوق تحت اي حجة «ولا احد سيفعل ذلك إلا بلدية بيروت صاحبة الحق الوحيدة».
يكثر الكلام عن تجاذب بدأ يحصل بين مذهب ومذهب آخر، جراء الخلافات حول سوق الخضار المركزي، ويقول احدهم: «نحن ما زلنا نسكت من اجل من يُمثل معن الخليل. هنا توجد عائلات. هنا سنة بيروت وشيعة الجنوب. لكن، ما يحدث هو ان السنّة في بيروت، اصحاب السوق الأوائل، يشعرون وكأنه يهيمن عليهم. هو يضر بذلك بمن يمثل. هذا السوق يمثل اهل بيروت السنة، الذين يعتبرون انفسهم مضطهدين حاليا من رئيس بلدية يعتبر نفسه ممثلا لـ»حزب الله». انه يحاول أن يتصلبط عليهم».
ما هو الحل؟ «ان يحلّ عنا». هذا ما يجيب به هؤلاء بصوت واحد.
الآرمة الكبيرة، لشاغلي سوق الخضار في بيروت، هي السنة في بيروت، أما الآرمة الكبيرة لتحرك رئيس بلدية الغبيري فتظهر وكأنها «قبة باط» شيعية. معن الخليل يساهم بجعل السنة، شاغلي السوق، يخالون وكأن واحداً ينظر الى نفسه على أنه إبن الخليل هو الأقوى. يتحدثون بذلك في السوق قائلين: «الله يرحم رفيق الحريري، الذي لم يعمل على نقلنا من هنا» يتابعون «كل أسواق الخضار في لبنان موسمية اما سوق الخضار هذا فيعمل 12 شهراً في السنة. 60 ألف طن من البطاطا تصل من مصر الى هنا سنوياً. ووزير الزراعة لا يتعاطى إلا معنا. كل الأسواق رديفة لنا. ربنا نزّل على الارض وسيط هو عيسى المسيح عليه السلام ومحمد رسول الله. الوسيط هو الاساس. نحن الأساس فلا يلعب احد معنا».
وكأن البلاد بحاجة الى ملفات خلافية جديدة وهذه المرة من مدخل «الخيار والبندورة والكوسى». أخطأ رئيس البلدية؟ لم يُخطئ وله حقّ بما يريده؟ الأهم من هذا وذاك أن الأمر ينحو في اتجاه مذهبي. فهل هذا مطلوب اليوم؟