يبدو أن اللحظة حانت لمساءلة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حول مخالفاته المتمادية لقانون النقد والتسليف. بحسب المعلومات المتداولة، برز توجّه لرئيس الجمهورية ميشال عون يقضي بالطلب إلى مجلس الوزراء استدعاء سلامة والاستماع إليه بعد حملة التهويل التي قادها نهاية الشهر الماضي ودعوته إلى تقليص القطاع العام استناداً إلى معطيات مضللة
“إعادة الانتظام القانوني الى العلاقة بين مصرف لبنان والحكومة» هو العنوان الأبرز للمؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش الخميس الماضي. فالمفترض بحاكم المصرف رياض سلامة أن يطبّق قانون النقد والتسليف الذي يحصر علاقته بالحكومة من خلال نصوص قانونية، لا عبر تصريحات مضلّلة – في مؤتمرات وعبر «تويتر» وفي لقاءات جانبية – تحمّل القطاع العام مسؤولية العجز المالي وتشترط تقليصه لضبط العجز، فيما الهدف التغطية على حصّة الدين العام من العجز بما فيها خدمته والمنتفعون منه.
كلمة بطيش الذي لم يُتح له قولها في مجلس الوزراء رغم طلبه الكلام أكثر من مرّة، لم تعبّر عن قناعاته فحسب، بل أيضاً عن رغبة رئيس الجمهورية ميشال عون في إعادة الاعتبار للحدود القانونية بين المصرف والحكومة. وأهمية هذا الانتظام تكمن في وجود ملفات مصرفية ونقدية مثيرة للشبهات، أبرزها تلك التي تطرّق إليها بطيش، مثل الهندسات المالية وسياسة رفع الفائدة والقروض المدعومة.
وفي المعلومات أن توجّهاً بدأ يتبلور لدى رئيس الجمهورية باستدعاء سلامة إلى مجلس الوزراء للاستماع إليه، ما أربك رئيس الحكومة سعد الحريري ودفعه إلى إيفاد وسطاء إلى بعبدا لثني الرئيس عن ذلك، وتجنّب فتح الملفات التي استفاد منها الحريري نفسه، بصفته أبرز المالكين لمجموعة البحر المتوسط، وآخرون غيره من قوى السلطة الحاكمة.
وتعني إعادة الانتظام القانوني تطبيق المواد 71 و72 و117 من قانون المحاسبة العمومية التي تحدّد آليات التعاون بين الجانبين. فالمادة 71 تنصّ على أن يقدّم «المركزي» للحكومة «كل مشورة تتعلق بالسياسة المالية والاقتصادية بغية تأمين الانسجام الاوفر بين مهمته وأهداف الحكومة». والمادة 72 تنصّ على أن «للمصرف أن يقترح على الحكومة التدابير التي من شأنها التأثير المفيد على ميزان المدفوعات وحركة الاسعار والمالية العامة والنمو الاقتصادي (…) ويطلعها على الأمور التي يعتبرها مضرّة بالاقتصاد وبالنقد». فيما تنص المادة 117 على أن يقدّم الحاكم لوزير المالية «قبل 30 حزيران من كل سنة الميزانية وحساب الأرباح والخسائر على السنة المنتهية وتقريراً عن عمليات المصرف خلالها. وينشر الميزانية والتقرير في الجريدة الرسمية خلال الشهر الذي يلي تقديمها لوزير المالية».
على مدى السنوات الماضية، كان سلامة يقدّم الميزانية والتقرير لوزير المال. إلا أنه، خلافاً لهذه النصوص ومستفيداً من العلاقات الثنائية التي نسجها مع وزراء المال، كان هناك إصرار على عدم عرض الميزانية والتقرير على الحكومة، فكان الأمر يمرّ من دون مناقشة أو مساءلة. كما نسج سلامة علاقات مباشرة مع رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب بعيداً عن القوانين الناظمة، ما يثير شكوكاً حول طبيعة «البازارات» التي كانت تجري.
والأسوأ أن هذا الأمر يتكرّر حالياً لجهة النقاشات الدائرة حول مشروع موازنة 2019. فالاجتماعات التي تعقد بشأن الموازنة بعضها ثنائي يضم الحريري وسلامة، وبعضها ثلاثي يضمهما مع وزير المال علي حسن خليل، أو رباعي يضم الثلاثة والرئيس عون. كما كان لافتاً أن رئيس مجلس النواب نبيه برّي استدعى سلامة لسؤاله عن رأيه بالأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية بعدما طلب من وزير المال إطلاع كتلته النيابية على مشروع موازنة 2019! وكل هذه اللقاءات لا موجب دستورياً لها، وهي بلا معنى في ظل تجاوز المهل الدستورية، بدءاً من التأخّر في إعداد الموازنة (المفترض أن يكون في أيلول)، وإقرارها في مجلس الوزراء ثم إحالتها إلى مجلس النواب (عند بدء عقد تشرين الأول). علماً أن المجلس بات أمام مهلة محصورة لإقرارها قبل نهاية كانون الثاني تبعاً للمادة 86 من الدستور… وبالتأكيد، ليست المشكلة محصورة بدستورية الموازنة وقانونيتها، بل بمضمونها في ظل العجز الكبير والتزامات لبنان تجاه الدول المانحة بخفضه، وتوسّع الحكومة في الإنفاق السياسي الانتخابي العام الماضي من خلال التوظيف العشوائي في القطاع العام وتنفيذ مشاريع غير ذات أولوية…
فوق هذا كلّه، قرّر سلامة، لغايات غير واضحة، ممارسة ضغط إعلامي بالتزامن مع هذه الاجتماعات. ففي مؤتمر للحوكمة في 22 آذار الماضي، أعلن أن «حجم القطاع العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 17% قبل الحرب إلى 35% اليوم»، وتحدّث بإسهاب عن «سوء الإدارة الذي يسهم في عجز الموازنة والتضخّم ويهدّد استقرار البلد (…) ينبغي تقليص حجم القطاع العام…”.
بدت هذه التهويلات وكأنها محاولة لتحديد جدول أعمال الحكومة واجتماعات الموازنة غير الشرعية. لذا، جاء ردّ بطيش بدعوة سلامة إلى تطبيق قانون النقد والتسليف وتقديم المشورة للحكومة بشأن وضع القطاع العام، أي تقديم الدراسة التي تثبت صحّة هذه التصريحات ودقّتها. فما قاله الحاكم مضلل، نظراً الى وجود فرق كبير بين «مساهمة القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي وبين نسبة الإنفاق العام إلى هذا الناتج. وهما أمران مختلفان. مدفوعات الفائدة استأثرت وحدها بأكثر من ثلث الإنفاق العام بين 1993 و2018. وبالتالي، لا يعبر الإنفاق العام عن مساهمة القطاع العام أو حصّته في الاقتصاد».
خلاصة الأمر أن سلامة يمارس غشّاً موصوفاً لأن الأمر على النحو الآتي:
– مساهمة القطاع العام في الناتج لعام 2017، بحسب إدارة الإحصاء المركزي، تتوزّع على بندين: الإدارة العامة التي تمثّل 10% والدعم 3.7% الذي لا يتضمن الكلفة التي يدفعها مصرف لبنان. وعموماً، تعدّ هذه المساهمة مؤشّراً على القيمة المضافة التي قدّمها القطاع العام للاقتصاد.
– نسبة الإنفاق العام إلى الناتج مؤشّر قياسي للمقارنة مع دول أخرى وليس لها أي معنى اقتصادي. والأصحّ هو مقارنة كلفة الإنفاق على بند ما من أصل كلفة الإنفاق الإجمالية. هذا يعني أن الرواتب والأجور ولواحقها (كلفة الإدارة العامة والقوى العسكرية والتقاعد وتقديمات أخرى مثل المنح المدرسية والمكافآت والساعات الإضافية وتحويلات أخرى) مثّلت عام 2017 نحو 35% من مجموع النفقات الحكومية، فيما استأثر الدين العام بنحو 32% من هذه النفقات، واستحوذت الكهرباء على 8.6%.
هنا، وقع الحاكم الممسك بالاقتصاد اللبناني في خطأ مميت. إذ أنه ليس قادراً على التمييز بين النفقات العامة والناتج المحلي الإجمالي، وبين طرق قياس الأعباء وما تعنيه كل مقاربة. وبدا واضحاً أنه يريد أن يشنّ هجوماً على القطاع العام لتحميله مسؤولية العجز والتعمية على كلفة خدمة الدين وثقلها على الخزينة، حماية للمصارف ولكبار المودعين الذين لا يزالون يرفضون أي نوع من المساهمة في تحمّل فاتورة التصحيح المالي رغم أنهم كانوا الأكثر انتفاعاً من هذا الورم المالي، إن لم يكونوا الوحيدين.
هذه المرّة جاء من يقول لسلامة إن الغشّ لم يعد مسموحاً، وان كل خفض في كلفة الفائدة بمعدل 1% يؤدي إلى «خفض الإنفاق العام بنحو 900 مليون دولار». وقد أشار بطيش أيضاً الى «أفكار عدة لإجراء مثل هذا الخفض، سبق وتداولنا بها مع وزير المال وحاكم مصرف لبنان ووافقا عليها». ومن أبرز النفقات التي يمكن خفضها التحويلات التي تتعلق بالدعم والمساهمات للجمعيات والقطاع الخاص، ,«إعادة النظر بالقروض المدعومة وبآلياتها المعتمدة»، مشيراً الى أن حجم هذه القروض بلغ 15 مليار دولار للسكن ولقطاعات الإنتاج، لكن يتم استغلال بعضها بعيداً عن «روحيتها» وأهدافها الاقتصادية. إذ «يجب أن تذهب القروض لمستحقيها من ذوي الدخل المحدود، وللنشاطات الإنتاجية المولدة لفرص العمل. ولا يجوز أن يبقى الدعم مشتتاً واستنسابياً، ومن الأسرار».
طبعاً هناك جزء من الكلفة المالية التي يدفعها لبنان مخبأة في ميزانية مصرف لبنان بعيداً عن أعين الخزينة. فمصرف لبنان يجري الهندسات المالية مع المصارف بغية استجلاب الدولارات من الخارج، من دون إطلاع الحكومة على هذا الأمر أو مناقشتها في أهدافه، وفي الأثر الذي ترتّبه على الاقتصاد. مخالفات سلامة لا تقف عند هذا الحدّ، فكما بات معروفاً، اللجوء إلى الهندسات سببه عدم رغبة مصرف لبنان برفع أسعار الفائدة، إلا أنه اضطر للاستمرار في تنفيذ الهندسات ثم رفع أسعار الفائدة بمعدلات قاتلة للنشاط الاقتصادي.
في مؤتمر الحوكمة الذي دعا فيه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى تقليص القطاع العام، زعم سلامة أن «المركزي» كان سباقاً في مجال الإدارة الحكيمة من خلال ثلاث نقاط: بحثنا في سياسات التوظيف التي يجب أن ترتكز على تكافوء الفرص، نحن لا نوظّف إلا الأشخاص الذين نحن بحاجة إليهم، ننصف كل الموظفين بإخضاع ترقيتهم لعملية تقييم موحّدة ونطبق سياسة المحاسبة.
أبرز مثال على مزاعم سلامة أن عدد موظفي مصرف لبنان تراجع إلى نحو ألف موظف بعدما كان يتجاوز 1500 بسبب سياسات التقاعد المبكر الباهظة الكلفة التي ينفذها كل فترة من أجل «تعقيم» المصرف من فائض الموظفين الذي يغرق فيه. وما عليه لتأكيد كلامه، إلا أن يقدّم تقريراً بتطور كلفة الرواتب والأجور والتقديمات لموظفي المصرف فضلاً عن نسبة أقارب السياسيين وذوي الصلة بهم من الموظفين.
ومن أبرز الأمثلة، السخاء الذي يُغدقه على نوابه الأربعة. فإضافة إلى رواتبهم الأساسية التي تتجاوز 40 مليون ليرة شهرياً، أو ما يوازي 59 مرّة الحدّ الأدنى للأجور، يمنحهم الحاكم هديّتين أساسيتين من المال العام: قرض ميسّر جدّاً بقيمة 600 ألف دولار، وتعويضات سفر بقيمة 2000 دولار عن كل يوم في الخارج. والمفاجئ أن معدل سفر نواب الحاكم يبلغ 15 يوماً في الشهر!