على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء التي تنعقد اليوم الخميس، وتحت البند 15 منه، عودة بالزمن خمس سنوات إلى الوراء. فوزارة الاتصالات تريد إنعاش قرار صادر عن مجلس الوزراء منذ شهر أيار من العام 2020، والانطلاق بمناقصة عالمية تعيد تلزيم إدارة وتشغيل شبكتي الخليوي في لبنان إلى شركات خاصة. وعليه التجأ الوزير شارل الحاج إلى مجلس الوزراء بطلب لتفويض “سياسي- اداري”، يتيح للوزارة أن تباشر بإعداد دفتر الشروط، على أن يحدد المجلس آلية لذلك والإدارات العامة الواجب التنسيق معها.
في الشكل يظهر الطلب محاولة لإعادة الانتظام القانوني لقطاع الخليوي عبر العودة إلى قرار قديم ومحاولة إحيائه بروح جديدة. وقد أرفقته وزارة الاتصالات بقرار “عدم ممانعة” صادر عن هيئة الشراء العام، بالإضافة إلى مطالعة قدمها الخبير القانوني في المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة طارق دندشلي. من دون أن تتضح لدندشلي صفة في إبداء الرأي، خصوصًا أن الوزير لم يعرض أي خصخصة للقطاع، إنما تخصيص للإدارة.
إيقاظ ذاكرة الفساد
في المقابل أيقظ طلب وزارة الاتصالات ذاكرة خبراء القطاع ومتابعي ملفات الفساد والصفقات المشبوهة التي فضحها ديوان المحاسبة في تقاريره المتتالية منذ العام 2022، والتي أثبتت هدر المال العام تحت مظلة الإدارة الخاصة لشركتي الخليوي منذ العام 2004 وحتى العام 2020، قبل أن يُفتح مؤخرًا التحقيق البرلماني ببعضها، في سابقة هي الأولى بتاريخ مجلس النواب.
وهذا ما يطرح السؤال: هل يُفترض فعلاً العودة إلى نموذج “الشركات الخاصة” في إدارة شبكتي الخليوي بعد كل التجارب التي أثبتت محدودية جدواها وكلفتها المرتفعة؟ أم أن الدولة باتت تملك من الأدوات التنظيمية والتشريعية الحديثة، ما يتيح لها إدارة القطاع بنفسها ضمن نموذج شراكة يؤمن إيرادات من القطاع توازي الاستثمارات الموضوعة فيه؟
تكمن المفارقة في كون إدراج طلب الوزارة المرفوع إلى الأمانة العامة منذ 20 أيلول الماضي، جاء بعد ثمانية أيام فقط من إقرار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص معدلًا في 29 أيلول الماضي. وهو تعديل أعقب بتوقيته تعيين أعضاء الهيئة الناظمة للإتصالات. والخطوتان أشاعتا الآمال بمناخ إصلاحي جديد يستجيب لشروط الجهات الدولية المانحة.
إلا أن وزارة الاتصالات تجاهلت “القانون المعدل” في كتابها، كما أنها لم تحدد أي دور للهيئة الناظمة، مكتفية في تعداد الهيئة ضمنًا من ضمن المراجع التي استندت اليها بطلبها، ومن ضمنها قانون الاتصالات 431/ 2002. علمًا أن دور الهيئة مرجعيًا في تنظيم التلزيم ووضع دفتر شروطه وفقًا للمطالعة التي قدمها دندشلي، حتى لو لم يكن كذلك بالنسبة للقرارات التشغيلية وفقًا لرأي خبير.
تجربة غير مشجّعة
اكتفت وزارة الاتصالات بتبرير طلبها في المقابل بإبراز واقعة تعاقب أكثر من وزير على المسؤولية منذ خمس سنوات، من دون إطلاق المناقصة، وهذا ما أوجب وفقًا لكتابها إلى الأمانة العامة “عرض الموضوع مجدّدًا على مجلس الوزراء للوقوف على رأيه حول المضي في إجراءات المناقصة العالمية لناحية إطلاقها والآلية الواجب اتباعها وفقاً لما يوجبه الدستور والقوانين المرعية الإجراء”.
إلا أن ما فات وزارة الاتصالات وفقًا لرأي خبير بالقطاع، هو ما طرأت على إدارته من تبدلات خلال السنوات الخمس الماضية. فشركتا الاتصالات “تاتش” و”الفا” لم تكونا مشلولتان خلال هذه السنوات، وقد نجحتا باجتياز الأزمة بكادر من الموظفين اللبنانيين، ولو بظل شلل مؤسساتي لا تزال تداعياته ماثلة حتى الآن. بل استمرت إنتاجية الشركتين، وحققتا ايرادات للخزينة العامة. في الموازاة فتحت خلال السنوات الثلاث الماضية ملفات ثلاثة وزراء تعاقبوا على المسؤولية خلال حقبة الإدارة الخاصة للشركتين، وتبين أن ارتكابات هؤلاء كان يقنّعها تلزيم ادارتهما لشركات خاصة. فخلال المرافعات التي قدمها كل من الوزراء دفاعًا عن ارتكاباتهم في جلسة الاستماع التي عقدتها الهيئة العامة لمجلس النواب، والتي خصصت لتشكيل لجنة تحقق برلمانية، إدعى هؤلاء أن شركة “زين” التي كانت تدير MIC2 أو “تاتش” هي من كان يتحمل مسؤولية الصرف حينها. وهذا ما أظهر النيات في التمترس خلف القطاع الخاص للتنصل من المسؤوليات من دون أن يعفي الشركة المتلزمة التشغيل طبعًا من الارتكابات.
لا يشكل “النموذج” الذي قدمته الشركات الخاصة في إدارة قطاع الخليوي إذًا تجربة مشجعة لإعادة إحيائها. وهو ما ظهر من خلال ردة الفعل الأولى حول إدراج البند على جدول أعمال جلسة الحكومة غدًا. فاعتبر قانونيون وخبراء في الاتصالات أن إحياء القرار في هذا التوقيت بالذات، بالتزامن مع فتح تحقيقات برلمانية وقضائية في الملفات المطروحة، يقلل حتى من هيبة السلطات، البرلمانية والقضائية والرقابية، التي تقوم بواجبها في ملاحقة المرتكبين.
انقلاب على الإصلاح
ما فاقم هواجس المعارضين من الطرح وتوقيته، أنه قد يشكل محاولة أخرى للانقلاب على الإجراءات الإصلاحية المتخذة من داخل الحكومة، و”القوطبة” عليها بقرارات متسرعة. بينما إدارة الدولة برأي هؤلاء لا يمكن أن تتحقق بعقلية “المقاول” بل بوضع الخطط والسياسات التي تسهم بتطوير القطاعات وتحسن خدماتها وبالتالي إيراداتها بالنسبة للخزينة العامة.
فهل يكرّر مجلس الوزراء غدًا نمط “القرارات السريعة” على حساب الإصلاحات البنيوية في هذا القطاع، فيمرر طلب تلزيم إدارة شركتي الخليوي مجددًا، كما مرر صفقة ستارلينك التي صدر أول من أمس مرسوم الترخيص لها موقعًا من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير المالية والاتصالات. أم يضع حدًا لهذه المنطق، مستفيدًا من سقطات التجارب السابقة ودروسها؟



