شيئاً فشيئاً، تتخلّى وزارة الصحة عن دورها الرعائي عبر تسليم بعض مهامها للمنظمات الدولية وغير الحكومية. تتقاسم هذه المنظمات ما يفترض أنه عمل مؤسسة حكومية، فتُعطى مفتاح الوصول إلى داتا المرضى، وتعدّ خططاً وبرامج، وتكلّف موظفين بمهام رديفة، كما يحصل اليوم مع منظمة الصحة العالمية التي «هتكت» الوزارة وباتت وزارة رديفة تتحكم بمفاصل «الأصيلة»، لناحية إطلاق البرامج وتكليف موظفين بها وإعطائهم رواتب بالفريش دولار وشراء الولاءات، حتى بات همّ كثيرين منهم تقديم فروض الطاعة للمنظمة وتنفيذ المهام التي تكلفهم بها، لا تلك التي يتقاضون رواتبهم للقيام بها.
كل ذلك فيما المعنيون في الوزارة في «كوما»، ما يثير شكوكاً حول ما إذا كان هذا الصمت المطبق تواطؤاً أم استسلاماً أم «شيئاً» آخر؟ وإلا، كيف لمنظمة الصحة الدولية أن تكلّف، مثلاً، نحو 17 موظفاً في الوزارة بمتابعة برنامج الكوليرا وترصد لهم مبالغ مالية بالفريش دولار تراوح بين 1000و2500 دولار، من دون التنسيق مع الوزارة. وكيف تفتح، من دون علم الوزارة أيضاً، باباً لتسويق عمل شركات الأدوية العالمية عبر تسويق لقاحات فيروس كورونا التي فاق ما تُلف منها ما أعطي للمواطنين؟ ناهيك عن دعم لبرامج وإعداد لدراسات بملايين الدولارات ودفع لأموال ومساعدات مادية بالمباشر، من دون رقابة أو متابعة من الوزارة. المفارقة، أن هذه المؤسسات التي احتلت الإدارات الرسمية وكلّفت نفسها ممارسة دور الرقيب ومحاسبة الدولة، لا قدرة لأحد على محاسبتها على ارتكاباتها المشبوهة. وهذا نموذج يفسّر، بحسب رئيس «الصحة حق وكرامة» إسماعيل سكرية، «كيف يتم تفكيك مؤسسات الدولة وتدجينها من خلال عطاءات المنظمات الدولية والأنجي أوز».
هكذا، تعمل كل المنظمات الدولية لا منظمة الصحة وحدها. تختلف التسميات، لكن النهج واحد. تدخل هذه المنظمات بشعارات منمّقة حول الحوكمة والشفافية والإدارة الرشيدة لتتقمّص مهام الوزارات وتتحوّل مؤسسات رديفة للمؤسسة الأم. لا يحدث ذلك في وزارة الصحة وحدها، بل جرى ويجري في وزارة التربية، مثلاً، مع استيلاء المنظمات، ومنها اليونيسيف، على دور الوزارة، وصولاً إلى دخولها شريكاً أساسياً ومموّلاً لتعديل المناهج، وشطب ما يزعجها ويزعج الدول المانحة فيها.