هي ليست المرّة الأولى التي تكون إدارة المناقصات ومديرها العام، الدكتور جان العلّية، تحت الضوء. لا عجب في ذلك نظراً لمحورية هذه الإدارة في بلد عادة ما يكون المتضرّرون من الرقابة الصارمة على أنواعها كثراً. الحملة الواسعة التي تُشنّ في وجه العلّية تُنذر بمنحى أكثر حدّة والخوف من أن تكون الجرّة بين من هو «مع» ومن هو «ضد» قد كُسرت. قرار إبطال مزايدة عمومية، مؤتمر صحافي عالي النبرة للعلّية ثم إخبار بحقّ الأخير. وموعدان مقبلان: مزايدة استثمار السوق الحرّة غداً وولادة هيئة الشراء العام قبل نهاية الشهر. فهل إن وراء الأكمة ما وراءها؟
مؤتمر العلّية الصحافي في 16/06/2022 سبقه قرار مجلس شورى الدولة رقم 495 تاريخ 26/05/2022 حول إبطال «المزايدة العمومية» لإدارة واستثمار مساحات مخصّصة للبيع في مطار رفيق الحريري الدولي والتي جرت بتاريخ 27/04/2017. وقد نسب القرار إلى إدارة المناقصات تهمة «التقاعس» علماً أن مزايدة العام 2022 كان قد أُعلن عنها بتاريخ 12/05/2022 ومن المقرّر أن تجرى غداً الخميس. هذا ويبدو أن الأمور تتّجه إلى مزيد من التعقيد والتصعيد مع تقديم مجلس شورى الدولة إخباراً بحق العلّية، لم يكن الأخير قد تبلّغه رسمياً حتى كتابة هذه السطور. غير أن وزير العدل، القاضي هنري خوري، أفصح عن تفاصيله مؤخّراً في الإعلام، وهو ما كرّره في اتصال أمس مع «نداء الوطن». فماذا عن مضمون الإخبار، وكيف فسّره أهل الشأن من الناحيتين القانونية والسياسية على ضوء الاستحقاقات، وماذا يقول العلّية بدوره؟
إخبار بتوقيت مريب
بالإخبار نبدأ. فلدى سؤاله، أشار وزير العدل لنا الى أن مجلس شورى الدولة اعتبر أن في مؤتمر العلّية الصحافي الأخير إساءة إليه في أكثر من موضوع، ما دفع بالمجلس إلى إرسال كتاب له – أي إلى الوزير – ليقوم بدوره بتحويله إلى النيابة العامة التمييزية. فهل لمزايدة السوق الحرّة علاقة بالإخبار؟ يجيب خوري: «طالما أن الموضوع أصبح بعهدة النيابة العامة التمييزية، لا يمكنني تخطّي القضاء».
العلّية، بحكم القانون، سيتحوّل رئيساً لهيئة الشراء العام ابتداء من 29/07/2022، ما يثير علامات استفهام حول ما إذا كانت الملاحقة القضائية ستؤدّي إلى كفّ يده عن المنصب. الإجابة بِرَهن ادّعاء النيابة التمييزية عليه من عدمه، كما يلفت خوري خاتماً: «فلننتظر معاً النتائج دون أن نستبق الأمور».
إبطال بعد 5 سنوات
ننتقل إلى مزايدة السوق الحرّة. لِمَ عادت إلى الواجهة بعد خمس سنوات من إجرائها لتُبطَل قبل شهرين من انتهائها؟ للإجابة توجّهت «نداء الوطن» إلى رئيس مجلس شورى الدولة، القاضي فادي الياس، الذي امتنع عن الإدلاء بأي تصريح باعتبار «أن من حق الإعلام الوصول إلى الخبر والمعلومات في حين يتحتّم على القاضي الالتزام بموجب التحفّظ لا سيّما في الملفات الحسّاسة والدقيقة». لا بأس، إذ طرحنا السؤال على الرئيس السابق للمجلس، القاضي شكري صادر، الذي اعتبر أن مزايدة السوق الحرّة هي من المناقصات القليلة التي تمّت تحت إشراف إدارة المناقصات كون معظمها يحصل بالتراضي إرضاءً لأفرقاء معينين. «وقتها تقدّمت خمس شركات، ثلاث منها اعتُبرت غير مستوفية للشروط حيث رست المناقصة على طرفين: الأول عرض مبلغ 100 مليون دولار سنوياً مقابل 43 مليون دولار من الثاني. وكونها مزايدة، لا مناقصة، الأفضلية هي لمن يستأجر بسعر أعلى».
على أثره، تقدّم أحد الأفرقاء المستبعدين بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة طالباً إبطال قرار وزير الأشغال العامة والنقل والمتضمّن الموافقة للطرف الأول على نتيجة المزايدة. صادر، الذي كان رئيساً للمجلس آنذاك، يشرح معلّقاً: «وصلني الملف كقضاء عجلة، فاستغربت الطعن أساساً: لو كان الفرق بين العرضين مليون دولار أو مليونين لكان الطعن منطقياً، إنما نتكلم عن فارق تخطّى الـ50 مليون دولار. من هنا قمت بردّ الدعوى، فما كان من الجهة المستدعية إلّا أن استأنفت القرار في مجلس شورى الدولة لتُردّ الدعوى مجدّداً».
ماذا استجدّ إذاً؟ «بالمبدأ، نصّت المادة 77 من نظام مجلس شورى الدولة على أنه، في حال توفّر أسباب جدّية لإبطال المراجعة، وفي حال تبيّن وجود ضرر بليغ يلحق بأحد الأفرقاء، يجب وقف التنفيذ حالاً – وليس بعد سنوات – تفادياً لزيادة الضرر»، يردّ صادر مؤكّداً أن تنفيذ المناقصة لم يتوقف حينها، وإلّا لكان مصيرها الإبطال. وتابع متسائلاً كيف لمناقصة عمرها 5 سنوات أن يأتي حكم إبطالها قبل شهرين من انتهائها: «نتفهّم فسخها لكن ليس إبطالها، فلِمَ الدخول في متاهات هدفها التخريب لا التصحيح؟ حتى لو كان هناك خطأ ما في دفتر الشروط، المسار الزمني الذي سلكه الملف لم يكن صحيحاً؟».
الواضح، بحسب صادر، أن العلّية يواجه حرباً سياسية تُشنّ ضدّه. والقول إن لجنة المناقصات ارتكبت أخطاء جسيمة في مزايدة السوق الحرّة هو بالأمر المسيء لـ»شخص عملت معه، وهو، شهادة حقّ تقال، الأنظف والأفضل والأكثر شفافية في قضايا المناقصات».
قضية رأي عام
للغوص أكثر في الرأي القانوني، كان لـ»نداء الوطن» حديث مع المحامي والناشط واصف الحركة، الذي لم يرَ في مؤتمر العلّية الصحافي أي تطاول على القضاء أو أي تخطّ للحدود إنما محاولة ضرورية للتصدّي لِمَن يحاول تشويه الحقائق من خلال وسائل الإعلام. وإذ لا يخفى على أحد عدم استقلالية القضاء اللبناني وخضوعه للإرادة السياسية، كان من واجب مدير عام إدارة المناقصات إطلاع الرأي العام على ما يحصل خاصة أن كافة السرقات التي شهدها البلد جاءت نتيجة الصفقات بالتراضي التي لم تخضع لرقابة تلك الإدارة، من وجهة نظر الحركة.
وعن توقيت الإخبار يقول الحركة إن ثمة نيّة لتوجيه مزايدة السوق الحرّة الجديدة التي ستحصل غداً لمصلحة شركة معيّنة: «عندما يتمّ استهداف العلّية بدعوى أو بإخبار فكأنهم يستهدفون رأس الإدارة للوصول إلى تعطيل قانون الشراء العام الذي يدخل حيّز التنفيذ في التاسع والعشرين من الشهر الحالي، ما يشكّل استكمالاً للضغط على إدارة المناقصات لفرض مسار معيّن على سير الأمور». فحتى الطريقة التي استخدمها وزير العدل في الإعلان عن الإخبار عبر الإعلام فيها الكثير من التهويل، على حدّ قول الحركة، الذي استغرب تصرّف الوزير الذي لا تفسير له سوى تشكيل جوّ من الضغط لإزاحة كل من يقف عائقاً أمام طموح البعض في الفساد والسرقة.
نستفسر عن المسار القانوني للإخبار، فيوضح الحركة أن النيابة العامة التمييزية ستبلغ العلّية بذلك ليتوجّه بعدها للإدلاء بإفادته. فللأخير الحق بإبراز كافة المستندات و»سيكون حتماً هناك إخبار جدّي وحقيقي بكل المخالفات والمؤامرات التي كانت تُساق في موضوع مزايدة السوق الحرّة بهدف إرسائها على شركة معيّنة»، كما يؤكّد. ففي وقت تُعتبر النيابة العامة التمييزية رأس هرم القضاء الجزائي، وقد يكون جرى اللجوء إليها كون العلّية موظفاً، كان يمكن الركون أيضاً إلى محكمة المطبوعات كون الموضوع يتعلّق بالمؤتمر الصحافي. الخياران متاحان لكن سبب التوجّه إلى النيابة العامة التمييزية مباشرة ستتكشّف خلفياته في الأيام القليلة المقبلة.
باختصار، يرى الحركة أن الهدف الأساسي مما يحصل هو إبعاد العلّية عن رئاسة هيئة الشراء العام بعد أن رأى البعض باستهدافه وسيلة لمنع تطبيق هذا القانون. فهو طالما كان مستهدفاً أو أنه العضو أو الرئيس الحكمي، قد يتمّ تعيين شخص آخر إلى حين انتهاء محاكمته رغم أنه لا حق لهم بذلك. «كل موقع يؤدّي دوره له منا الاحترام والتقدير، فقد أصبحنا في زمن تُعتبر التأدية السليمة للوظيفة إنجازاً كبيراً. لكي نحمي الأكفّ النظيفة في البلد، وجب تحويل كل قضية من هذا النوع إلى قضية رأي عام والوقوف إلى جانب المستهدفين في معركتهم ليس دفاعاً شخصياً إنما عن القضية بذاتها. نحن لا ندافع عن العلّية، إن كان مخطئاً فليحاسب، لكن إن كانوا يريدون تعطيل قانون الشراء العام الذي فُرض عليهم، فواجبنا الاتحاد في الدفاع عن القانون لأن لبنان ليس بلداً فقيراً لا بل أفلس نتيجة هذه الصفقات المشبوهة».
المواجهة مستمرّة؟
وإذ كان لا بد من استمزاج رأي العلّية وهو في دائرة الاتهام قبل أيام من تسلّمه رئاسة هيئة الشراء العام، رأى في «التقاعس» الذي ينسبه مجلس شورى الدولة إلى إدارة المناقصات إساءة معنوية لإضعاف إدارته والحؤول دون تنفيذ قانون الشراء العام، مع ما ينتج عن ذلك من زعزعة للثقة العالمية والمحلية بمؤسسات لبنان الرقابية. وأكّد في اتصال مع «نداء الوطن» أنه كان في معرض التعليق على قرار قضائي كباحث قانوني وكمدير عام إدارة المناقصات باعتبار أن القرار اتّهم إدارته بالتقاعس ما من شأنه إلحاق الضرر بالمال العام. من هنا مطالبته في المؤتمر هيئة القضايا في وزارة العدل بإعادة المحاكمة بخصوص قرار الإبطال رقم 495 لما يترتّب عنه من أعباء مالية على خزينة الدولة لا تقل عن نصف مليار دولار. ولفت إلى أن أبرز دليل على أن موقفه يقع في إطاره القانوني الصحيح والمحق هو استلامه في ما بعد كتاباً من هيئة القضايا عبر رئاسة مجلس الوزراء يؤكّد أنها ستطلب إعادة المحاكمة. أما شروط الإبطال في وقائع القرار، فهي غير متوفّرة إن من ناحية وجود مخالفة أو عيب جسيم أو فادح، أو عدم مشروعية سبب العقد أو موضوعه أو حتى تفادياً لإلحاق الضرر بالمال والمصلحة العامة، كما يضيف.في ما يتعلّق باتهامه بالإساءة إلى القضاء، أعاد العلّية تأكيده عدم تعرّضه لشخص أي قاض أو وزير إلا اذا كانت مناشدتهم القيام بمهامهم تعني بالنسبة لهم تحقيراً. فالإعلام كان خياره الوحيد للتعليق على مخالفة هيئة القضايا في وزارة العدل للأصول والقواعد التي ترعى عملها ما جعل مبدأ الوجاهية محقّقاً صورياً ومضروباً واقعياً. ويتساءل: «هل الجريمة التي ارتكبتها هي حرصي على تلافي الضرر البالغ والأكيد الذي سيلحق بخزينة الدولة؟ أم اهتمامي بمنفعة الشعب اللبناني المنهوب؟ أم إصراري على رفض الإقامة في الكهف وخروجي إلى النور وعدم خضوعي لمشيئة تدمير الإدارة اللبنانية وتبديد ما تبقّى من المال العام؟».
وتمنّى العلّية لو كان الإخبار مقدّماً في صدد ملف الكهرباء القابع في التفتيش المركزي وتعطيل عمل وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية ومنعها من متابعة ملفات الفساد والاتفاقات بالتراضي خارج إدارة المناقصات، كما صفقات وزارة الاتصالات والتلاعب في دفاتر شروط صفقات السدود، إضافة إلى صفقات الفيول المغشوش والصفقات الوهمية وصفقات العرض الوحيد وتعطيل خطة معامل الكهرباء وغيرها الكثير.
نسأله أخيراً عمّا لو استدعي إلى التحقيق، فيجيب: «سأقوم بالإجراءات القضائية والإدارية المناسبة، موضحاً كافة الحقائق للرأي العام الذي سيدرك أن إدارة المناقصات تواجه تهويلاً وليس إخباراً. وسيتأكّد اللبنانيون ارتباط الإخبار بصفقات محدّدة وبمسار قانون الشراء العام . سأتصرف على هذا الأساس، معتبراً أن في إخبار وزير العدل إخلالاً بالتزامات لبنان الدولية لناحية حماية كاشفي الفساد».
أغلب الظن أن تطوّرات مثيرة بانتظارنا في هذا الملف. وفي حين تبقى الكلمة الفصل للقضاء آملين منه إحقاق الحق، لا بد من الإشارة إلى أن العلّية رُشِّح مؤخّراً لجائزة فخر العرب الدولية للعام 2022 عن فئة أخلاقيات الإدارة العامة. قد يكون التوقيت محض صدفة. لكن الصدف، بغض النظر عن مآل الأمور، تكون أحياناً بالغة الدلالات.