عندما كانت المزايدات تتصدر المشهد في اجتماعات اللجان النيابية في آذار الماضي بشأن سلفة الكهرباء، لم يكن أحد يهتم لما يمكن أن تُسبّبه هذه المزايدات. الصراع السياسي كان أولى من إيصال الكهرباء للناس. «القوات» و«الاشتراكي» بشكل خاص، ومن خلفهما «حركة أمل» و«المستقبل»، وقفوا سداً منيعاً في وجه اقتراح القانون الذي تقدّم به نواب من تكتّل لبنان القوي لإعطاء سلفة خزينة لكهرباء لبنان بقيمة 1500 مليار ليرة. لكن تحت ضغط الخوف من العتمة، بعدما توقف حينها معمل الزهراني عن الإنتاج لعدم توافر المحروقات، وبعدما حذّر وزير الطاقة حينها من إطفاء كل المعامل في نهاية آذار إذا لم يؤمن الفيول، أقر المجلس النيابي، على مضض، سلفة لا تزيد على 300 مليار ليرة. كان التهديد صريحاً بأن المجلس لن يوافق على إقرار سلفة أخرى، بحجة رفض المس بأموال المودعين.
بالنتيجة، كان مبلغ الـ200 مليون دولار النفس الأخير الذي يفترض بكهرباء لبنان أن تستعمله لإنقاذ التغذية، علماً أنها خلال الأشهر الثلاثة الأولى من السنة تمكّنت المؤسسة من استعمال ما تبقى لها من سلفة العام 2020 (بسبب الانخفاض الشديد الذي طرأ على أسعار النفط). وقد عمدت المؤسسة إلى تقنين الإنتاج لتتمكن من الاستفادة من السلفة لأطول وقت ممكن. كما تكفّلت بدفع ثمن إحدى الشحنات من أموالها، بعدما جمد المجلس الدستوري قانون السلفة للبت بطعن قدمه نواب «القوات».
وحتى عندما صار الدعم على سعر 3900 ليرة، ومؤخراً على سعر 8000 ليرة، لم يتغير شيء. ظلت «الكهرباء» محرومة من الفيول، مع بارقة أمل وحيدة تتمثّل بوصول الفيول العراقي. لكن ذلك لا يكفي حتى لثلث حاجة المعامل، ما يعني أن التقنين الشديد مستمر، ببركة رافضي دعم المؤسسة. لكن مشكلة هؤلاء أنهم لم يفهموا أن تأثير حجم كهرباء الدولة كان كارثياً على كل الصعد. وبحسب ما ورد في خطة الكهرباء ربطاً بدراسات أعدّها البنك الدولي، فإن اللبنانيين يتكلفون حوالي مليار دولار أميركي سنوياً على المولدات الخاصة لكل ألف ميغاوات ساعة غير منتجة من مؤسسة كهرباء لبنان. ومع افتراض أن الحاجة تُقارب 3000 ميغاواط، كانت المولدات الخاصة تؤمن بالحد الأدنى ألفي ميغاواط منها، فإن الخسارة تقارب ملياري دولار سنوياً. وحتى مع افتراض أن التقنين الذي لجأت إليه المولدات، أدى إلى انخفاض إنتاجها إلى 1000 ميغاواط، فإن الخسارة السنوية تبقى مليار دولار، يسهم مصرف لبنان في جزء كبير منها (سعر المازوت).
حرمان كهرباء لبنان من الأموال، لم يسهم فقط في تكليف المشتركين في المولّدات أموالاً باهظة، فالأثر الأكبر كان على الاقتصاد. كل القطاعات أصابها الشلل من جراء انقطاع الكهرباء. الاستشفاء والزراعة والصناعة والخدمات… وغيرها الكثير. اللافت أن الحريص على الاحتياطات، هو الذي حرم البلد من العملات الأجنبية التي كان يمكن أن يؤمنها القطاع السياحي. فكل المؤشرات تؤكد أنه سيكون واعداً (ارتفاع كبير في حجوزات الطيران والفنادق). ففي بداية الموسم، وتحديداً في حزيران، تفاقمت أزمة الكهرباء والمحروقات، فانهار قطاع النقل، وأُقفلت الكثير من الفنادق والمطاعم أبوابها، فيما تراكمت سيارات الإيجار التي ألغيت حجوزاتها لعدم توافر البنزين.
بالعودة إلى ورقة سياسة قطاع الكهرباء التي أقرت في العام 2010، فهي تشير، نقلاً عن تقديرات للبنك الدولي إلى أن «الخسارة غير المباشرة التي تكبدها الاقتصاد اللبناني جرّاء عدم تأمين الكهرباء من قبل الدولة واضطرار المؤسسات إلى اللجوء إلى المولدات الخاصة تصل إلى حوالي ٤ مليارات دولار أميركي سنوياً لكل ألف ميغاواط ساعة غير منتجة من مؤسسة كهرباء لبنان». وإذا كانت المولدات تؤمن في ذلك الحين نحو 1000 ميغاواط، فقد وصلت بعد حرمانها كهرباء لبنان من الأموال، إلى ألفي ميغاواط، قبل أن تنخفض من جرّاء التقنين إلى ألف ميغاواط مجدداً، بما يعني أن الحرص على 800 مليون دولار من الاحتياطات، كلّف بالحد الأدنى 4 مليارات دولار سنوياً، من دون احتساب الخسائر المباشرة المتعلّقة بكلفة دعم مازوت المولّدات، ومن دون احتساب التكاليف الهائلة على المشتركين، والتي ستصبح خارج السيطرة بعد رفع الدعم تماماً.