تحتدم الأمور حول لبنان. داخلياً، هناك معركة مفتوحة بين أركان النظام القائم حول كيفية إدارة الازمة الحالية. الصراع يأخذ أشكالاً خطيرة جداً، واحتمالات الفوضى الدستورية والسياسية، معطوفة على فوضى الشارع والازمات المعيشية، تهدّد بفوضى أمنية يصعب تقدير حجمها وطبيعتها. إقليمياً، هناك مساع حثيثة من المحورين الاميركي والايراني لتحقيق تقدم ميداني يُترجم في السياسة في أكثر من منطقة. واحتمال عودة المواجهات القاسية بين اليمن والسعودية تزداد يوماً بعد يوم. وعالمياً، الولايات المتحدة منشغلة بأزماتها الداخلية مع لامبالاة إزاء بعض الملفات، ومنها ملف لبنان. الناس الذين ينتظرون قيام الحكومة الجديدة لا يهتمون بصراعات القوى السياسية، سواء الموجود منها في السلطة أم القوى التي في طور التشكّل من الحراك الشعبي الذي شهده لبنان قبل شهرين. اهتمامهم الفعلي ينصبّ على ما اذا كان في إمكان القيّمين على الامور ابتداع حلول تخفف من وطأة الأزمة وتفتح الباب أمام حلول واقعية. وفي هذه الاثناء، ينشغلون في كيفية تأمين مدخولهم اليومي، ويصرفون من المدخرات الموجودة في بيوتهم، ويعيشون قلقاً على ودائعهم في المصارف سيتحوّل عاجلاً الى عنف لا تقف في وجهه أي سلطة. أما الشباب منهم، فها هم يحتشدون على أبواب السفارات بحثاً عن ملاذ خارج البلاد.
رياض سلامة وإبراهيم كنعان تواصلا مع أعضاء في لجنة المال والموازنة، وطلبا عقد اجتماعات ثنائية قبل تحديد موعد جلسة للجنة لمناقشة أمور دقيقة. قال الرجلان إن لديهما معلومات وأخباراً سارة جداً في ما يتعلق بالوضع الاقتصادي والمالي في لبنان في المرحلة المقبلة، وإن لدى فرنسا (التي زارها سلامة) خطة واضحة وفعالة للتعاون مع الحكومة المقبلة إذا تشكّلت بطريقة مُرضية ومن خلال اختصاصيين ومستقلين.
الاميركيون، مثل الفرنسيين، يريدون حكومة مستقلة عن حزب الله. وهم سيساعدون في حال شُكّلت بطريقة غير استفزازية. أما العرب، وفي مقدمهم السعودية، فهم يفضّلون الابتعاد الآن. وهم لا يثقون بأحد من جماعتهم في بيروت، لكنهم سينصاعون في حال قرّرت أميركا المساعدة. أما امتناع واشنطن فسيعني أن لا دعم عربياً.
واشنطن تخشى الانهيار: الرابح حزب الله
زوار العاصمة الاميركية سمعوا كلاماً كثيراً. أحدهم يقول إن السؤال في واشنطن هو: هل نسمح ونساعد بانهيار لبنان ومن يستفيد من الانهيار؟ الجواب كان: حزب الله وإيران. لذلك، أُرسل ديفيد هيل على عجل الى بيروت، متراجعاً عن استراتيجية العزل لحلفاء الحزب، واستبدلها بوجهة نحو «حوار أخير». واختصر المعادلة بالقول: «نساعدكم بقدر ما تساعدون أنفسكم». حتى ان الأوروبيين بعثوا عبر قنوات خاصة برسائل عاجلة الى «الثنائي الشيعي» يؤكدون فيها انهم يؤيدون التعاون لمعالجة الوضع، وأنهم قادرون على إقناع الأميركيين بان سياسة «العزل» لا تفيد احدا هذه الفترة.
اختصر الزائر التشخيص الاميركي بأن «كل المشاكل من صنعكم. التفتيش عن عدو في الخارج يمنع الوصول الى حل. العالم يريد منكم ضبط أموركم وترتيب بيتكم. لن يستفيد أحد من الانهيار، لكن عليكم أن تعلموا جيداً أن الانهيار في لبنان لن يؤثر سلباً على أحد، ولن يتدخل أحد من دون مقابل».
بحسب المصدر، صاحب العلاقات القوية بالمؤسسات النقدية العالمية، فإن صندوق النقد الدولي «لن يبادر الى وضع برنامج إنقاذي خاص للبنان. كان الصندوق – ولا يزال – بالفعل ضد الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان. وقد ذُكر ذلك بوضوح في تقرير الصندوق لعام ٢٠١٨، والذي لم يسمح البنك المركزي بالإفراج عنه. لبنان، كبقية بلدان العالم، عضو في الصندوق ويملك أسهماً فيه. ويستطيع الصندوق، قانونياً، أن يعطي أيّ بلد مساعدات مالية بحسب حصته في أسهم الصندوق. بناءً عليه، ما يمكن للصندوق أن يعطيه للبنان أقل من 150 مليون دولار، وهذا قليل جداً لما يتطلبه لبنان. لذلك لا يمكن للصندوق أن يفرض برنامجاً على لبنان. لكن، يمكنه أن يعطي نصائح. صحيح أنه أعطى المكسيك والأرجنتين أكثر من حصتيهما بعشرات المليارات، ولكن ذلك كان لأن انهيار اقتصاد هذين البلدين يؤثر على الاقتصادين الإقليمي والدولي. أما انهيار الاقتصاد اللبناني فلن يؤثر إلا على اللبنانيين، باستثناء الميسورين الذين هرّبوا أموالهم».
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يزال يدعو الى الهدوء، ويتحدث دائماً عن فرصة أخيرة لمنع الانهيار الكبير. وهو عقد، الشهر الماضي، اجتماعات غير معلنة مع قوى بارزة في السلطة، وقدّم شروحات مفصّلة عن الوضع المالي وعن التوقعات، وعرض مجموعة أفكار للعمل. كان هدفه الحصول على دعم مقبول لحركة جديدة يقوم بها، أساسها عدم مراعاة أحد. حتى إنه رفع الصوت مراراً في معرض انتقاده لمصارف لبنانية، متوعداً الكثير منها بأنه سيحاسبها إن لم تبادر اليوم الى العمل على إنقاذ البلاد التي ربحوا منها عشرات المليارات من الدولارات. وهو وعد بضغوط على المصارف وعلى كبار المساهمين لاستعادة كمية من الاموال التي حُوّلت الى الخارج، سواء قبل الازمة أم خلالها.
يتجه سلامة، بالتعاون مع المصارف، الى وضع قواعد جديدة للتعامل بالنقد. بعض الإجراءات سيكون معلناً، لأن الناس سيتصرفون على أساسه، وبعض الإجراءات قد يبقى محصوراً بيد من بيده الامر. ولم يقرر سلامة بعد إذا ما كان يحتاج الى تشريعات أو قرارات من الحكومة لتغطية بعض الخطوات. لكن أساس ما يريده، هو جعل السوق في لبنان تتعامل كلياً بالليرة اللبنانية. وحصر التعامل بالدولار بمن يريد استخدامه لشراء حاجات من الخارج، مع مساع لضبط قانوني أو تلقائي لعملية الاستيراد، بما يقص من حجم العجز في الميزان التجاري. وهو سيعمد الى فرض تراجع أكبر في مستوى الفوائد على الودائع ما يجعل الاستثمار في الودائع أمراً غير مرغوب فيه دافعاً نحو استثمار استثماري. واذا ما نجح سلامة في ذلك، بالتوافق مع المصارف، فسيستهدف التحكم في السعر الموازي للدولار، ومنعه من الارتفاع أكثر. هو يطلب من المصارف السعي الى جمع الدولارات من الصرافين، وتخفيف الشروط التي توضع على من يريد إدخال الدولارات الى المصارف، ونقل كل ما يصلها من دولارات الى المصرف المركزي المستعد لتغطية الخسارة الناجمة عن وجود سعرين. بمعنى آخر: في حال اشترت المصارف الدولارات من السوق الموازية بسعر السوق المفتوح، فسيعمد سلامة الى شراء هذه الدولارات من المصارف بالسعر نفسه. لكن القاعدة أنه سيدفع كل مستحقاته للناس والمصارف بالليرة. وهو يتكل على رفع قيمة محفظته بالعملات الصعبة ليتمكن من طبع مزيد من الليرات وتفادي زيادة كبيرة في التضخم في المقابل.
من جهة أخرى، ينتظر سلامة من المصارف تأمين اكثر من 2,4 مليار دولار لرفع رأس المال بعشرة في المئة، ساعياً إلى الإتيان بهذه الاموال من الخارج. والمصارف التي تواجه صعوبات عليها اتخاذ قرارات مؤلمة: الذهاب نحو التصفية أو عمليات الدمج من دون انتظار دعم المصرف المركزي كما كان يحصل سابقاً، أو اللجوء الى بيع أصول في الخارج وإعادة ثمنها الى لبنان، وهو ما سيقوم به مصرف عودة قريباً، بعد إتمام صفقة بيع فرعه في مصر بنحو مليار دولار قررت إدارة المصرف إعادتها الى بيروت فوراً. وبينما يسعى مصرف سوسيتيه جنرال الى خطوة مشابهة ويواجه صعوبات غير محددة المصدر، سيكون بعض المصارف مضطراً الآن إلى تسييل محفظاته العقارية للبيع وبأسعار تشجيعية تمكنها من توفير مئات الملايين من الدولارات.
يراهن سلامة والمصارف على أن استقراراً سياسياً وأمنياً في لبنان، سيشجع الناس على إعادة التداول بالدولارات التي تخزن اليوم في البيوت، ويقدّرها المصرفيون بنحو أربعة مليارات دولار. أما اللطيف في الامر، فإن المصارف التي تحابي الادارة الاميركية طوال الوقت، تتحدث اليوم مع الاميركيين عن أنه لا يمكن التقيد بكل شروط مكافحة تبييض العملات. ويقصد هؤلاء، عملياً، أنهم يريدون الاستفادة من السيولة التي يوفرها حزب الله في السوق اللبنانية، وخصوصاً أنه يتعامل بالدولار الاميركي.
في مقابل هذه المواقف والوقائع، تقف قوى بارزة في السلطة أمام أسئلة محيّرة. الرئيس ميشال عون ومعه حزب الله وحركة أمل يريدون النقاش حول السبل الأفضل لمنع الانهيار، خصوصاً أنهم اليوم من يقرر شكل السلطة السياسية بعد انكفاء قوى 14 آذار، وفي مقدّمها تيار «المستقبل». والنقاش مع المؤسسات المالية والنقدية المحلية أو الخارجية لن يكون مبدئياً، بمعنى رفض مطلق لأي بحث في تأمين أموال جديدة من الخارج، بل سيتركز على الشروط المفروضة على لبنان لقاء أي نوع من المساعدات، خصوصاً أن هذه القوى تعرف مسبقاً أن الغرب الذي يعد بضخّ أكثر من 15 مليار دولار في السوق اللبناني، لا يكتفي بطلب مراقبة إنفاق هذه الاموال، بل يبحث عن ضمانات بأن يعيدها لبنان في مواعيدها المستحقة. وهنا بيت القصيد.
ومن أجل تبسيط المعادلة يمكن القول:
الغرب يريد ضمانات مالية أو عينية مقابل كل دين جديد. وهو يعرف أن موجودات لبنان بالعملات غير كافية، إذ لا يملك القطاع المصرفي اليوم ما يسمح له بإعادة الودائع الى الناس. والاموال الموجودة لدى المصرف المركزي بالكاد تكفي لتلبية حاجات البلاد الاساسية. وبالتالي، فإن الدولة اللبنانية معنية بتوفير ضمانات عينية. فماذا يملك لبنان؟
يملك كمية من الذهب المخزّن، نحو 70 في المئة منه في الولايات المتحدة. ولا يجيب رياض سلامة عن الحجم الفعلي للذهب الموجود في لبنان، ولا أحد يجزم الى الآن بأن هذا الذهب غير مرهون أصلاً. وقيمة الذهب تساوي نحو 13 مليار دولار. كما يملك بعض القطاعات المنتجة القابلة للتسييل، من شركات الهاتف الارضية والخلوية وشركة الكهرباء وشركة الطيران وكازينو لبنان ومصلحة التبغ والتنباك، وهي مؤسسات مربحة، ويمكن خصخصة الجزء الاكبر منها، ما يضمن سيولة تحتاج إليها الدولة، وتخفف من العجز، وبالتالي تمنع الدولة من استخدام القروض لدعم الموازنة، إضافة الى بعض الممتلكات التي تخص الدولة اللبنانية في الخارج. لكنها ليست ذات قيمة تجعلها أساسية بالنسبة إلى المقرض.
لكن ما لدى لبنان، ويشكل عنصر إغراء للغرب، هو أولاً سوق النفط والغاز المتوقع استخراجه من البحر الآن، وربما من الارض بعد عقد وأكثر. وهو بكميات مغرية للسوق العالمية، ويمكن للغرب أن يطلب وضع يده على آليات العمل في هذا السوق بما يضمن ما يعتقد أنه الضمانة الاكيدة مقابل القروض الجديدة والقديمة أيضاً. أكثر من ذلك، فإن الغرب الذي يبدي استعداداً أولياً للمساعدة حتى في شراء الديون السيادية الخاصة بلبنان، مستعد للأمر في حال حصوله على ضمانات أكيدة في سوق النفط. وهو الخيار الاكثر فعالية. وبالتالي، فإن النقاش الفعلي في لبنان اليوم يستند الى سؤال واحد: هل نقدم على بيع مسبق لكل ما نملكه في باطن الارض وفي قاع البحر من دون ضمانة إصلاحات كاملة تجعل لبنان ينتقل من حالته الراهنة الى حالة جديدة؟
«الحلف الحكومي»: خشية على الذهب والنفط وفشل خطة التغيير في السياسات
ومشروعية السؤال لا تتصل فقط بالخلفية السياسية لطارحيه، بل لكون الغرب نفسه، كما القوى المالية في لبنان، لا تنوي القيام بعملية إصلاح جذرية، أي إنها لا تستهدف تغييراً جوهرياً في السياسات المالية والاقتصادية والنقدية المتبعة، وهو ما يزيد من عناصر القلق لديها…
عملياً، النقاش القائم اليوم حول تركيبة الحكومة الجديدة لا يزال عبارة عن غطاء أو تمويه لنقاش أكثر جدية وخطورة، يتصل بكيفية مواجهة الازمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان، والمرشحة لمزيد من الخطوات الصعبة يوماً بعد يوم!
وبانتظار القرار أو الحلول، فإن الزعامات الطائفية والقوى النافذة في البلاد دخلت اضطرارياً في مرحلة العمل على توسيع قاعدة الدعم الاجتماعي لأنصارها، ويتوقع أن تنفق الكثير من أموالها الخاصة (مضطرة لا راغبة) على دعم المعيشة اليومية للناس. وعلى المستوى الطائفي، من المؤسف القول إن الكنيسة المارونية ومعها كنائس مسيحية تعمل على برامج تخص قواعدها الاجتماعية، وتتواصل مع الأثرياء لتأمين الدعم المالي، وهو حال وليد جنبلاط وسط الدروز، بينما ينخرط حزب الله في برنامج كبير أساسه دعم الموالين والأنصار من الشيعة وغيرهم. لكن السؤال الفعلي هو : ماذا تفعل دار الفتوى وأثرياء السنّة من أجل شارعهم المدفوع يومياً الى مواجهات قهرية باسم حقوق الطائفة!؟