وينن؟ أين اختفت شعارات المصارف؟

وين اللي كانوا عز الحبايب، وينن؟ صار في وادي بيني وبينن، وينن؟ وين اللي كانوا حبايب زمان؟… راحوا وما تركوا عنوان… ميدلي غنائي من فترات زمنية متعددة يختصر سؤالاً واحداً وينن؟ أين المصارف؟ أين شعاراتها التي دغدغتنا لأكثر من عقدين و”نيّمتنا” على حرير الفوائد؟ أين المصارف التي وعدتنا بـ”راحة البال”، وطمأنت كلّاً منا بأنها “معك لأبعد حدود” و كانت “ترى أحلامنا قبل أرقامنا” ومعها كان “الغد يبدأ الآن”… وينن؟؟؟

سكتت الشعارات فجأة وغابت الإعلانات، اختبأت خلف أبواب المصارف الموصدة المحصنة بألواح الحديد السميكة. طارت الوعود بغد أفضل وقدرة تكبر وطموحات تتطور… تلك الشعارات والحملات الإعلانية التي تبنتها المصارف في العقد الأخير (قبل الأزمة) أدخلتها الى كل بيت وجيب وجعلتها “منا وفينا”، لتصير جزءاً من الوعي الجماعي مثل الدبكة والتبولة. وفي ليلة تشرينية “ما فيها ضوء قمر” استيقظ الشعب اللبناني على واقع آخر وانقلبت شعارات اعتاد سماعها مثل “خلينا نتقدم سوا” أو”شوف حالك بليرتك” “ومنعرف شو بدّك”، الى شعار واحد يختصر المرحلة ” يلي في يوم عرفتيني انساي… إنساي…” وانتهت القصة.

لم تكن تلك الحملات الإعلانية بريئة أو مجرد تسويق لخدمات مصرفية كما أثبتت دراسة أعدها مركز “مبادرة سياسات الغد” وكشفت أنه بين العامين 2012 و2021، اشترى القطاع المصرفي ما قيمته 1.17 مليار دولار من الإعلانات المتلفزة، وانقسمت بين 80% قبل الأزمة العام 2019، و20% بعدها وتوزعت على المؤسسات الإعلامية الستّ الأكثر مشاهدة في لبنان. وكانت قيمة الإعلانات المصرفية حوالى 100 مليون دولار سنوياً بين العامين 2012 و2015، لتزداد بنسبة 75% في العام 2018 وتبلغ رقماً خيالياً وصل الى 215 مليون دولار. وشكلت إعلانات المصارف حوالى 15% من إجمالي مساحات الدعاية الإعلامية في لبنان خلال هذه الفترة لتصير المصارف جزءاً لا يتجزأ من يوميات اللبناني. كيف لا وواحد من المصارف الكبرى ما زال مصرّاً أن شعار “مصرفك مدى الحياة” شعار “يتخطى المآرب التسويقية ليشكل فلسفة فعلية ترسم كل ما نقوم به من أجلك وتحدّد أطره”.

باعوا الوهم للناس

ويقول سامي زغيب لـ”نداء الوطن” وهو مدير الأبحاث في “مبادرة سياسات الغد” وأحد معدّي الدراسة المذكورة، إن موضوع الإعلان كان الشق الأهم في الوهم الذي تمّ بيعه للناس وأمّن الاستمرارية للمصارف وكفل لها أرباحاً هائلة. فالقطاع المصرفي أنفق مبالغ طائلة على الإعلانات لنشر سردية قائمة على الاستقرار والازدهار، وتوفير نسبة عالية من الثقة في القطاع المصرفي للمحافظة على استمرارية الرهان المالي الخطر والاستفادة منه لتحقيق أرباح كبيرة. ثقة مبنية على الوهم جعلت المودع او المستثمر غير واع للمخاطر المالية المرافقة لنسبة الفوائد العالية ومطمئن الى سلامة وديعته.

مع زيادة الإعلانات بلغ حجم الودائع 4% من قيمة الاقتصاد وهذه النسبة لم تكن ناجمة عن كون المصارف تقوم بعمل ممتاز يؤمن لها الاستمرارية، بل لأنها استثمرت بشكل كبير في توليد الثقة عند الناس لإيداع المزيد من الأموال لا سيما من خلال المغتربين. فالناس، يقول زغيب، يستقون معلوماتهم في جزء كبير منها عادة من التلفزيون وحين يسمعون وعود المصارف المتكررة يصدقونها ويثقون بها، في حين أن المصارف قد اشترت هذه السردية المحبِّبة بها وركزت عليها أكثر من تركيزها على العمل المصرفي المنطقي والواعي، وبهذا كسبت ثقة الناس في لبنان والخارج. لم يعرف المودعون أن المصارف تكذب عليهم، يقول زغيب، الى أن وصل الأمر بها الى خيانة الثقة التي اشترتها بفعل الوهم. فهمّ المصارف الأول كان إدخال المزيد من الودائع لتشتري بها شهادات إيداع من مصرف لبنان وتنال عليها نسبة فوائد عالية جداً بالليرة اللبنانية وصلت الى حدود 30%، فيما مصرف لبنان لا يملك القدرة لإعادة الودائع الى أصحابها. وبهذا كان مردود المصارف على رأس المال أكثر من أية مصارف في العالم فيما استعادة القيمة الأساسية للودائع غير ممكن.

حتى بعد الأزمة أبقت المصارف على شيء من الإنفاق الإعلاني وذلك للدفاع عن المصارف وتحميل المسؤولية للآخرين، ما يساعدها في الحفاظ على مكتسباتها ويضمن لها الإفلات من العقاب، يقول زغيب. لكن اليوم ومع عدم وجود خطة إصلاحية ومع اصطفاف المصارف بشكل لصيق مع جمعية المصارف دون وجود أصوات معارضة أو إصلاحية وانتهاجها الأسلوب السابق نفسه، فقد فقدت الثقة بينها وبين الناس وبات المواطنون يبحثون عن حلول لامصرفية عبر شركات تحويل الأموال، ونشأ عداء وحقد تجاه المصارف يصعب أن يتغير مع الوقت.

هؤلاء استفادوا من المصارف

وجهة النظر هذه تنقضها مسؤولة كبيرة في أحد المصارف، رفضت رفضاً قاطعاً الإفصاح عن اسمها، وتقول: لا شك أن المصارف لعبت على عواطف الناس لأن الشعب يتأثر عادة بالغرائز ولا يعمل وفق منهجية مالية علمية، لا بل هذه ليست مسؤوليته وهو ينساق وراء العواطف وقد استغلت المصارف هذا الأمر. لكن الناس استفادوا جداً من هذه السياسة، بجرأة كبيرة تعترف المصرفية أن المديونين الذين أخذوا القروض من المصارف عاشوا فوق طاقتهم، واستطاعوا بفضل المصارف شراء بيوت لهم وتوسيع أعمالهم وإطلاق مشاريعهم الصغيرة في وقت لم يكونوا يجرؤون على مجرد التفكير بذلك. فالمصارف وقفت الى جانبهم بالفعل وهؤلاء استفادوا جداً من الأزمة لأنهم استطاعوا تسكير ديونهم بمبالغ لا تذكر، في حين كانوا يحتاجون الى جهد سنين طوال والعمل لتسكيرها، وبهذا يكونون قد استفادوا من المصارف على جبهتين. أما المودعون الذين يعتبرون اليوم الخاسر الأكبر فهؤلاء بدورهم طمعوا بالفوائد المرتفعة التي وصلت في بعض الأحيان الى 20% وفضلوا الربح السريع على العمل الدؤوب. لا شك أنهم تأثروا لكنهم ايضاً استفادوا، فما قدمته المصارف حينها سواء عبر القروض او الفوائد جعل الناس “أكثر بطراً” وهم في الأساس “موضوع قابل” يحبون الربح السريع والمظاهر.

الخطأ المقصود الذي ارتكبته المصارف كان بتعمية الناس عن المخاطر من خلال الحملات الإعلانية المطمئنة والناس طمعت بالفوائد العالية، دون ان تعي انه في علم المال والاقتصاد الفائدة المرتفعة توازي المخاطر المرتفعة. البعض أدرك ذلك لكن عدده كان قليلاً نسبة الى الأكثرية التي كانت راضية ومطمئنة الى الوضع. فتجربة إيداع الأموال في المصارف اللبنانية لطالما كانت تجربة آمنة ومطمئنة وطبيعية وطوال فترة الحرب لم يخسر المودعون قرشاً في المصارف، لذا اطمئنوا الى وعود المصارف واستفادوا منها.

وقد ركزت المصارف على الإعلانات عن الخدمات باعتمادها على استدانة الناس منها لأنها الأكثر ربحاً ولعبت عاطفياً على منتج تعرف أنه عالي المخاطر. واليوم تبين أن من استدان من البنك خرج رابحاً فيما من وضع جنى عمره وتعويضه كان الخاسر الأكبر.

تؤكد السيدة المصرفية أن المصارف استغلت الناس بدرجات مختلفة وبعضها وصل الى حد الاعتداء عليهم واغتصاب ثقتهم وردة فعل الناس تجاه المصارف وشعاراتها اليوم حادة بلا شك، ولكن لو عادت الأمور الى مسارها الصحيح فإن المعادلة تتغير بـ24 ساعة وتستعيد المصارف ثقة الناس الذين لا غنى لهم عن المصارف.

اللعب على العواطف

بين المدافع عن المصارف والمشيطن لها نحاول أن نقف على رأي شركات الإعلان التي كانت تقوم بالحملات الإعلانية للمصارف وتبتكر لها شعاراتها.

يقول سامي صعب أحد أصحاب شركات الإعلان والخبير في التواصل أن أي منتج يحاول إبراز الناحية المثالية فيه ليصل الى الناس ويتوجب على هؤلاء إما التصديق أو التساؤل. نحن كشعب صدقنا “التفنيصة” وتعاملنا معها وصرنا جزءاً من النظام القائم، ولا يمكن أن ننكر أننا عشنا مرحلة من الرخاء جراء هذا النظام الذي لم تكن وراءه رؤية سياسية أو مالية اقتصادية ما أوصل البلد الى الإفلاس.

على الصعيد الإعلاني يعتبر القطاع المصرفي ناشفاً لا يقدم منتجاً جذاباً تمكن رؤيته أو لمسه أو تذوقه، منتج لا يمكن بيعه بسهولة، وكان لدى المصارف استراتيجية طويلة الأمد تقوم على بناء الثقة مع المواطن لمدى الحياة، لذا كان لا بد من اللعب على العواطف وإدخال مفاهيم راحة البال “ونحن حدك ومدى الحياة” لكسب ثقة الناس. أرادوا أن يقولوا لهؤلاء لا “تعتلوا الهمّ” طالما نحن هنا وهذا يعني أنه في مكان ما كان ثمة همّ يجب على الناس التنبه له.

في أوروبا مثلاً المصارف غير مضطرة للتعامل بشكل عاطفي مبالغ به مع الزبائن بحكم ثقافتها والعلاقة العلمية المنطقية والعملية التي تربطها بالزبائن، أما في لبنان فالمصارف تريد ان تؤكد للزبون أنها تحبه وستقف الى جانبه وتساعده وذلك لتحقيق غاياتها.

وكشركات إعلان كان دورنا أن نظهر اي منتج يسوقه المصرف بشكل جذاب يلفت الناس، لقد شاركنا المصارف إنما دون سوء نية، لم نكذب على الناس. فأنا مثلاً لا أندم على حملات قمت بها إذ لم تكن بهدف خداع الناس والكذب عليهم، بل لأنها تقدم لهم خدمات ملموسة، فشعار “دايما بقربك” أردته للتعبير أن أحد المصارف موجود بفروعه في كل مكان ليكون في خدمتك وقريباً منك. ولا شك أن في كل الإعلانات ناحية اللعب على العواطف لتحبب الناس بمنتج أكثر من الآخر وبدورنا سخرنا قدراتنا لنظهر ما يريد المصرف إيصاله للناس واستخدمنا العاطفة، لكنني لو كنت أعرف الى أين سنصل لكنت أقله حررت أموالي الخاصة من المصارف.

يؤكد صعب أن المصارف كانت تشكل ثلث قيمة المردود لدى شركات الإعلان ووسائل الإعلام وهو رقم كبير جداً. ولكن اليوم ومع انهيار وضع المصارف توقفت الإعلانات والحلم الذي كان المصرف يبيعه انكسر وردة فعل الناس هي التهكم والسلبية وخيبة الأمل. لكن هذا لا يعني أن نعمل على تحطيم القطاع المصرفي لأن انهياره يعني انهيار لبنان وضياع الوجه الليبرالي للبنان.

يختم صعب كلامه قائلاً: الناس صدقوا ومشوا واستفادوا واليوم بعد ان وقع القطاع الكل يدفع الثمن، ولاسترجاع الحقوق لا بد من أن يبقى القطاع المصرفي واقفاً على قدميه وأن نتكاتف كلنا لنبني قطاعاً مصرفياً سليماً مبنياً على ثقة حقيقية.

 

مصدرنداء الوطن - زيزي إسطفان
المادة السابقةإبطال مواد في الموازنة… بين “الكلّي” و”الجزئي”!
المقالة القادمةالـ”كابيتال كونترول” مجدّداً… بين نقاش عبثي والتعطيل متبادل