تراجعت سوق البالة أو الألبسة المستعملة، لم تعد سند الفقراء ولا ملاذ الباحثين عن الماركة بأسعار زهيدة. فالأزمة الإقتصادية طالتها أيضاً، ووضعت أصحابها في مهبّ الدولار، فأوقعهم في الكارثة… ومن كان يبيع القطعة بألف باتت بـ 20 الفاً، والحذاء الذي كان بـ 5000 ليرة لبنانية بات بـ 100الف ليرة.
كانت الناس تهرب الى البالة أو سوق الألبسة والأحذية المستعملة لشراء ما تحتاجه بأقلّ الأسعار وبأجود الماركات، بقيت البالة “سيّدة القرى”، الى أن دخل سوق الدولار الأسود الى الساحة فقضى عليها، فالبالة تباع بالكيلو وكل كيلو يساوي دولاراً واحداً ومع فرق العملة فرقت اللعبة عند تجار هذه المصلحة، فانحسرت وتراجعت على نحو كبير وأقفل قرابة 90 بالمئة منها، نتيجة توقّف الاستيراد من الخارج وعدم القدرة على الدفع بالدولار. منال واحدة من أصحاب البالات التي أقفلت، إرتأت الإقفال على الخسارة لأن الناس إعتادت على الشراء بالرخص من سوق البالة، و”لن نشتري بعد مضاعفة الأسعار أربع مرّات”. ترى السيدة الثلاثينية “أنّ سوق الألبسة المستعملة خسر من قيمته لأسباب عدة، أوّلها فرق سعر صرف الدولار، فنحن نشتري البالة الواحدة بـ 30 و40 دولارا أميركيا أي حوالى الـ750 الف ليرة، بعدما كانت بـ ٤٥ الف ليرة، وهذا حتّم علينا رفع الأسعار، وهو ما وجده المواطن خارجاً عن قدراته، فقاطعها كما قاطع شراء الألبسة من المحال التجارية” وتعيد منال السبب “الى ضعف القدرة الشرائية للمواطن، بل فقدان السيولة من بين يديه، وإيلاء الشق الغذائي أولوية، ناهيك عن معركته اليوم مع غلاء القرطاسية والكتب وغيرها، كل ذلك حدّ من إستمراريتنا، ودفع بكثر للإقفال مخافة الإفلاس”.
كانت سوق الألبسة المستعملة محجّ الأغنياء والفقراء على حدّ سواء، نظرا لتوافر بضاعة بماركات أصلية وبأسعار مقبولة، خلافاً لبضائع السوق الصينية والسورية، غير أن الأزمة الإقتصادية أرخت بثقلها عليها، وسرقت آخر منفذ للفقير ليشتري منها. أمام محله في بلدة كفركلا الحدودية، يجلس المعلّم حسّان برّو، ينفخ دخان سيجارته، ويراقب حركة السيارات، علّ أحداها تتوقّف لتزور “باليته” الأوروبية، غير أنّ القلّة حالت دون شرائهم حتى من البالة التي حلّقت أسعارها بشكل بات الفقير يعجز عن شراء حتى كنزة، نتيجة لفرق الدولار. يُقرّ المعلم حسان بتراجع سوق البالة نتيجة عجزه عن شرائها بالدولار، بعد ازدهارها لسنوات طويلة، الى أن أفل نجمها، مثلها مثل باقي القطاعات.. يتأفف العم حسان كثيرا، وهو الذي كان محله لا يتسع، ٱفقتد عجقة الرواد، يعيد السبب الى الدولار أولا والى الطبقة الحاكمة ثانياً.
لم يعبر العم حسان بأزمة مماثلة سابقاً، منذ ثلاثين عاما وهو يعمل في ” كار الالبسة المستعملة”، خبر لعبة السوق، وعرف جيدا كيف يحقق أرباحاً طائلة، فـ”البالة” مهنة الذهب 24 قيراطاً على حد وصف العم حسان، وهذا يترجم نسبة العاملين داخلها، شرط أن تعرف كيف تشتري البضاعة. يؤكد المعلم أن “سوق البالة أشبه بالسياسة اللبنانية، علبة مغلقة، لا تعرف ما في داخلها، أي أننا نشتري “عالعمياني”، كما ننتخب “عالعمياني”، واليوم ” ندفع ضريبة الفساد المستشري في قطاعاتنا منذ سنين طويلة”. حتى بضاعة لم نعد قادرين على الشراء يقر الرجل السبعيني ان حالة إنكماش خطيرة يشهدها هذا الكار، وإنعكست على المواطن نفسه، خاصة على أبواب المدارس، ويقول “كانت السيدة تحضر لتشتري لكل اولادها وبالكاد يصل حسابها الى 40 الف، اليوم ان تلف حذاء أحد اولادها تضطر لتلزيقه. يسجل عتبه على غياب الرقابة على كل شيء، ومع ذلك يقول ” شو في بالايد، نمضي نهارنا ننتظر زبوناً وان حضر يكون للفرجة”، ويعيد السبب ” للأسعار المرتفعة، كنا أمام خيارين اما الاقفال أو رفع الاسعار، وفي الحالتين نحن خاسرون”. أفل نجم “البالة” هذا ما يؤكده المعلم حسان، ويزيد “دخلنا في النفق الأخطر، النفق الذي فقد فيه المواطن قدرته على شراء اي شيء”.