أزمة غذاء عالمية؟

من أسوأ نتائج الحرب الروسية على أوكرانيا امتداد أزمة غذاء جدية الى كل دول العالم، في مقدمهم مواطنو الدول الناشئة والنامية. حجم روسيا وأوكرانيا في التجارة العالمية لا يتعدى 2,2%، لكن أهميتهما تعود الى انتاج وتصدير سلع أساسية لحياة الانسان أهمها الحبوب والنفط والغاز والسماد الكيماوي للزراعة. دولتان مصدرتان لسلع يحتاج اليها العالم للاستهلاك والانتاج ولا بديل سريع متوافر لها يعوض النقص مما يسبب ارتفاع الأسعار. تشير الاحصائيات الى أن روسيا وأوكرانيا تشكلان 30% من أسواق القمح العالمية، 17% من أسواق الذرة وأكثر من 50% من زيت بذور عباد الشمس.

تستورد دول الوحدة الأوروبية 25% من حاجاتها من رقائق الذرة والزيوت النباتية من أوكرانيا وكذلك 50% من حاجاتها من الذرة. تكمن المشكلة ليس فقط في حجم الانتاج الحالي للحبوب وانما في صعوبة نقلها داخليا وفي تصديرها عبر المرافئ خاصة عبر البحر الأسود. الأوضاع الأمنية والحربية تعرقل وأحيانا تمنع الانتاج والنقل والتصدير، وهذا الواقع مستمر ويرفع الأسعار. من ناحية الصادرات الروسية، تكمن المشكلة خاصة في النقل اذ أن أهم الشركات العالمية أوقفت الشحن من والى روسيا تجاوبا مع العقوبات الغربية. روسيا عمليا محاصرة اقتصاديا لكن امكاناتها في تجنب العديد من العقوبات تبقى موجودة.

هنالك دول تتأثر أكثر بكثير من غيرها بتوافر الحبوب والنفط بسبب أوضاعها المائية والطبيعية والمادية، وأذكر منها السودان وأفغانستان بالاضافة الى مصر التي تعتبر أكبر مستورد للقمح في العالم. خلال الثلاثين سنة الماضية أصبحت روسيا وأوكرانيا مصدرة أساسية للحبوب لمنغوليا وسريلانكا ولبنان ومالاوي وناميبيا وتانزانيا وغيرها. هذه الدول تكفيها مشاكلها وحاجاتها العادية المزمنة، فأتت الحرب الحالية لتؤثر بقوة على توافر الحبوب وعلى أسعارها المرتفعة. في لبنان أزمة رغيف تنام وتستيقظ كل فترة بسبب الامكانات المادية المحدودة وسياسة الدعم المتأرجحة، كما بسبب طمع بعض المنتجين وخوف العديد من المستهلكين القلقين على غذائهم.

قبل الحرب كان هنالك 811 مليون مواطن لا يتوفر لهم الغذاء الكافي، ويرتفع هذا العدد اليوم بسبب الحرب وأوضاع الطقس أي مشكلة حرارية وفياضانات وجفاف قاتل ساهمت كلها في ارتفاع أسعار الغذاء. يشير البنك الدولي ان ارتفاع معدل أسعار الغذاء 1% يدخل عالميا 10 ملايين شخص ايضافيين الى الفقر الشديد. هذا يؤثر سلبا على السلم الاجتماعي في الدول الناشئة وخصوصا النامية.

قبل الحرب وحتى اليوم بالاضافة الى مشكلة الغذاء، تعاني الدول النامية والناشئة من تحديات عدة أهمها أسعار النفط التي تؤثر سلبا على كل شيء أي على التضخم وتكلفة انتاج كل السلع. عانت الدول من الكورونا التي ما زالت تقوى من فترة الى أخرى بحيث لم تعد بعد الأوضاع الانتاجية الى ما كانت عليه في سنة 2019. الكورونا غيرت العلاقات الانتاجية وطرق العمل ولم تستقر الأوضاع بعد. أما الغطاء الاجتماعي الآمن فلم يكن موجودا قبل الحرب وأصبح مكشوفا أكثر اليوم بسبب شح التمويل وغياب السياسات الاجتماعية في أكثرية الدول. هذه الدول تعاني أيضا من عاملين مهمين أي سقوط عملاتها الوطنية وترشيد الانفاق الداخلي بسبب عجز الموازنات وما ينتج عنه من أزمة ديون عامة ثقيلة خاصة خارجية. هذه الديون تصبح أثقل على الموازنات يوما بعد يوم بسبب ارتفاع الفوائد مؤخرا والتي قررت من قبل المصارف المركزية الأساسية لمحاربة التضخم.

يتوقع معظم مؤسسات الدراسات أن تستمر أسعار الغذاء مرتفعة أقله في 2022. ترتفع الأسعار ليس فقط بسبب العرض الحالي وانما بسبب القلق العالمي تجاه استمرار الامدادات مستقبلا بسبب الحرب التي تجعل الطرق غير آمنة وغير سالكة ولعدم توافر الشاحنات الكبيرة بسبب تحويلها الى الحاجات الحربية. كذلك الأمر بالنسبة للقطارات التي تعاني مشاكل مماثلة. لا شك أن هنالك دور كبير في التعويض عن الانتاج يجب أن تقوم به دول أخرى أهمها الهند والأرجنتين والولايات المتحدة.

ما الذي يمكن عمله عالميا لتجنب أزمة غذاء حادة كما يتوقعها بعض المؤسسات العالمية؟ ترتكز الجهود على عامل العرض كما على محاولة تخفيض الأسعار عبر الدعم المالي العالمي المباشر. نذكر هنا أن البنك الدولي قدم في السنتين الماضيتين دعما للزراعة كما للحماية الاجتماعية قدر ب 17 مليار دولار سنويا، مرتفعا من 12 مليار دولار سنويا في السنوات الثلاث التي سبقت.

أولا: من المنتظر أن تقوم بعض الدول الغنية بالمساعدة المالية والمادية المباشرة للدول الفقيرة. تكمن المشكلة في أن أوضاع الدول الغنية نفسها غير مريحة وبالتالي قدرتها على المساعدة موجودة لكنها أقل بكثير من الماضي. فالولايات المتحدة تعاني مثلا من التضخم وبالتالي يرفع المصرف المركزي الفوائد لتجنب الأسواء. أما أوروبا فمشاكلها لا تعد ولا تحصى وتؤدي الى تعزيز الأوضاع السياسية لليمين المتطرف.

ثانيا: توفير الدعم المالي المباشر الى «برنامج الغذاء العالمي» الذي يعمل في 117 دولة ومنطقة وينجح في تقديم المساعدات الى أكثر من 100 مليون مواطن. المعلوم أن البرنامج يحصل على 50% من القمح من أوكرانيا وبالتالي يجب توفير مصادر أخرى سريعا. تدخل البرنامج مباشرة يؤدي الى تخفيف الضغط عن أسعار الغذاء في الأسواق العالمية.

ثالثا: بسبب الأزمة الحالية وعدم توافر السلع الغذائية والحبوب تحديدا، هنالك دول تمنع تصدير انتاجها للمحافظة عليه لسكانها. هذا التصرف مضر على الصعيد العالمي وهنالك دور كبير للمؤسسات الدولية في الضغط للتخفيف منه. يقول البنك الدولي أن 40% من نسبة ارتفاع الأسعار خلال أزمة 2010\2011 أتت من منع الصادرات من قبل دول معينة.

رابعا: دور المؤسسات الدولية كبير في التنسيق بين المنتجين والمصدرين بحيث يتوزع الانتاج على الدول أي عمليا يجب أن تتدخل في الأسواق لتوجيه الانتاج والتجارة وهذا مقبول في ظروف خطيرة كالتي نعيش خلالها.

خامسا: لا بد من تقديم الدعم المباشر في الدول المتأثرة للمستهلكين وكذلك للمزارعين. يجب التحضير لبرامج انتاج حبوب وغذاء أكثر فاعلية وانتاجية بحيث لا نقع مجددا في مشكلة انتاج وتوزيع كما يحصل اليوم. نظام غذاء عالمي حديث مطلوب انشاءه معتمدا أقل على المياه والأدوية والسماد الكيماوي بسبب عدم توافرهم كما بسبب التكلفة الباهظة. هذا لن يحدث من دون رعاية مباشرة من قبل منظمة التجارة العالميةWTO ومنظمة الأغذية والزراعة FAO . تدخل هذه السياسات ضمن النشاطات الحامية للبيئة والمخففة للتلوث مما يفيد الزراعة والصحة والأوضاع الاجتماعية عموما.

مصدراللواء - الدكتور لويس حبيقة
المادة السابقةاعتصامات بالجملة… والسبب اقتصادي
المقالة القادمةلبنان على مشارف مجاعة في هذه الحالة…