مضت خمس سنوات على الانهيار، وما زال النقاش دائراً بشأن مسؤولية المصارف. تحاول المصارف التملّص من مسؤولياتها من خلال الادّعاء بأن الدولة (ومصرف لبنان ضمناً) أخذت الأموال وعليها أن تردّها. لكن ما يحصل، هو أن الكل، أي القوى السياسية ومصرف لبنان والمصارف، يبحثون عن كبش فداء لتوزيع خسائر تفوق 70 مليار دولار. وليس ذلك فحسب، فالقانون يحمّل المصرفيين مسؤولية بأموالهم وممتلكاتهم، وهو ما تعمل المصارف على دفعه من خلال مزاعمها بعنوان «الأزمة النظامية».حالياً، كل جهة تجترح النظريات حول براءتها من المشهد الحالي، ما أبقى دائرة المسؤولية مفرغة؛ الدولة تتهم «المركزي» بالتفرد بالسياسات المالية والنقدية باعتبار أن اتهام رياض سلامة وحده كافٍ لحسم المسألة، وأبواق سلامة ومن أتى بعده يتّهمون الدولة بالفساد والإنفاق بلا وعي أو حساب، وهذا مدعوم بتمسّك حاكمية مصرف لبنان بالدين الجديد الذي رتّبه مصرف لبنان على الخزينة بقيمة 16 مليار دولار. أما المصارف فتحاضر في العفة وتدّعي عدم خسارة دولار واحد من أموال الناس لأنها أودعتها لدى مصرف لبنان مدّعيةً بأنّه أجبرها على ذلك، لا طمعاً بالفوائد ولا إساءة للائتمان من خلال الإخلال بمخاطر التوظيف، لذا تواظب على تسجيل الودائع في حسابات دفترية.
إزاء هذه الدوامة العقيمة، تبرز مخاوف من استعادة مشهد «عفا الله عمّا مضى» الذي أرسي في عام 1991 وصدور قانون للعفو، سيكون مالياً هذه المرّة، بهدف تحقيق المساواة في المسؤولية! وفي هذا الإطار عقد معهد الدراسات العربية للدراسات الحقوقية للعالم العربي ندوةً في الجامعة اليسوعية في بيروت بعنوان «التنصل من المسؤولية في ظلّ الأزمة المالية». وفيها، دار نقاش للإجابة على السؤال الآتي: «أي مسؤولية للدولة، للمصرف المركزي، وللقطاع المصرفي في اندلاع الأزمة المالية وتفاقمها؟». حضر الندوة أطراف النزاع: المصارف ممثّلة بمحامي جمعية المصارف أكرم عازوري، المودعون ممثّلين بالمحامي كريم ضاهر. أيضاً استضافت الندوة نائب الحاكم السابق غسان عياش ووزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم.
سريعاً حسمت ماري كلود نجم وزيرة العدل في حكومة الرئيس حسان دياب النقاش بشأن المسؤوليات. أكّدت صراحةً «أنّ خسائر المصارف لا تقع على الدولة، فهناك فرق بين مسؤولية الدولة ومسؤولية من أدار الدولة»، سائلةً «هل الودائع هي ديون على الدولة اللبنانية؟ هل هناك قروض للحكومة من مصرف لبنان بالدولار؟». أجابت نجم حاسمةً: «إن كان هناك من وثائق مسجّلة كقروض عندها تقع المسؤولية على الدولة، في حين جلّ ما قام به مصرف لبنان مع الحكومة هو عملية صرافة، تأتيه بالليرات فيحوّلها إلى دولارات»، لافتةً إلى «تحويل الحكومة إيراداتها من العملات الأجنبية إلى مصرف لبنان وأخذت مقابلها ليرات، ويا ليتها لم تفعل لأنّه خسّرها أيضاً».
وترى نجم أن «الأزمة النظامية»، إنما هذا التوصيف، برأيها، لا يعفي المصارف التجارية من المسؤولية نهائياً: «الدولة توقّفت عن الدفع في 7 آذار 2020، بينما المصارف توقّفت عن صرف الدولارات النقدية للناس قبل ذلك بستة أشهر، والتجار يعلمون تماماً الصعوبات التي كانوا يواجهونها قبل اندلاع الأزمة منذ شهر آذار 2019 في تحويل وسحب الأموال من المصارف»، مشكّكة في وجود قانون يعفيهم من التزاماتهم.
وحول «المشكلة النظامية» التي تتحجّج بها المصارف لرمي وزر الأزمة عن نفسها وتحميلها للدولة حصراً، رأى ممثل المودعين المحامي كريم ضاهر أنّ «القانون واضح، الوديعة أمانة في المصرف وعليه ردّها»، مستنداً في رأيه إلى مواد قانون التجارة، والنقد والتسليف، والموجبات والعقود التي أوجبت على المصارف رد الودائع عند استحقاقها. «المصارف أخطأت في سياستها الاستثمارية»، يقول ضاهر، وهو يوافق على التوصيف بأنها «مشكلة نظامية» إنما «الحل يكون وفقاً للقانون السائد، أو ليكتبوا قانوناً جديداً، وليسلّموا مفاتيح مصارفهم لحاكم المركزي، لا أن يستغلوا الأزمة لتحويل الأموال إلى الخارج وإخفاء ذممهم المالية خوفاً من الانكشاف والمحاسبة».
وترافع المحامي أكرم عازوري دفاعاً عن المصارف، رافضاً الحلول القائمة على إلغاء أي جزء من الودائع، أو المصارف التجارية، ورأى «أنّ الدولة في يدها 90% من أموال المصارف»، مستنداً في رأيه إلى قضية طلب إفلاس أحدها أمام محكمة إفلاس بيروت. وقال: «القاضي رئيس المحكمة رفض الموافقة على إفلاس المصرف بحجّة عدم ردّه الودائع، واستند في رفضه إلى وجود رصيد للمصرف في مصرف لبنان، متسائلاً كيف يمكنني إفلاسه». غير أن القاضي وعازوري تجاهلا أنّ هذه الموجودات دفترية فقط، لا وجود فعلياً لها.
واستعاد نائب الحاكم السابق غسان عياش كلاماً عن تكوّن هذا النموذج الآتي من رحم «نظام الطائف الذي أنتج محاصصةً وقحةً، أدّت إلى إعداد موازنات عامة كارثية، وإنفاق رديء وغير مضبوط، لا يتناسب مع الواردات، ولا يبني دولة. وفي المقابل تمّ تمكين المركزي من العمل بشكل مستقل على صياغة السياسة النقدية من دون أن يتدخّل معه أحد، إذ كان يؤثّر على السيولة لتحقيق استقرار الأسعار لا ثباتها، بينما لم يتمكّن سلامة في إحدى المرات من الإجابة عن سؤال حول تطوّر الكتلة النقدية خلال عام واحد، علماً أنّ هذا هو عمل البنك المركزي، الذي لم يعمل كبنك مركزي».