حقق مجلس الوزراء الهدف الذي وضعه للموازنة، وهو نيل رضى رعاة مؤتمر “سيدر” عبر خفض العجز بنسبة تعادل نحو 7.6 في المئة من الناتج المحلي. سيتحقق ذلك عبر فرض رسم على الاستيراد يبلغ 2 في المئة، وفرض ضريبة على “النرجيلة” قدرها ألف ليرة عن كل “نَفَس”
انتهت جلسة مجلس الوزراء لمناقشة مشروع موازنة العام 2019 أمس، بخلاف علني بين وزير المال علي حسن خليل ووزير الخارجية جبران باسيل. الأخير قالَ بعدَ انتهاء الجلسة التي أرادتها غالبية المكونات أن تكون ما قبلَ الأخيرة إن “النقاش لا يزال يحتاج إلى عدّة جلسات”، بعد أيام على تكراره القول إنه يسعى إلى وضع رؤية اقتصادية للموازنة. أداء باسيل لم يستفزّ وزير المالية فحسب، بل عدداً آخر من الوزراء الذين اعتبروا أن “أفكار باسيل لا أبعاد إقتصادية لها، بل هي مجرد أفكار تهدف الى زيادة الجباية، مثلها مثل أي اقتراحات أخرى”. وهو ما دفع خليل إلى التصريح بعدَ انتهاء الجلسة بأنه “كان بالإمكان أن ننجز الموازنة اليوم، والكلام عن جلسات إضافية يتجاوز المنطق الذي أدرنا به جلسات النقاش”.
وفيما من المفترض أن تٌفرج الحكومة عن الموازنة في جلستها اليوم قبل إحالتها على مجلس النواب، عقدت جلسة أمس على وقع التحركات الشعبية التي وصلت الى الذروة بعدَ أن قرر العسكريون المُتقاعدون المعتصمون في ساحة رياض الصلح “اقتحام” السراي الحكومي، ما وضعهم في مواجهة مباشرة مع زملائهم العسكريين الحاليين. مشهد ما كان ليتحقق لولا سياسة التقشف التي أعلنتها الحكومة، لكن من باب رواتب القطاع العام، بدلاً من الذهاب الى إنجاز رؤية إقتصادية تتيح تغيير وجهة النموذج المعمول به، وخفض العجز من أبواب عديدة. مشهد الفوضى في رياض الصلح زادَ من الغموض السياسي حول موقف التيار الوطني الحر، خاصّة أن بعض المتقاعدين في الساحة قالوا لوسائل إعلام مرئية إنهم لم يتحركوا باتجاه السراي إلا بعدَ أن “وصلتهم إشارة من وزير الدفاع الياس بو صعب بأنه لم يعُد قادراً على الدفاع عن حقوقهم”. وقد دفع الموقف المنسوب الى وزير الدفاع إلى التساؤل عن الهدف من رفع مستوى التوتر. وفيما أكد أكثر من مصدر وزاري أن التخفيضات لم تطل الرواتب ولا المستحقات ولا الامتيازات، الا أن المعلومات أكدت أن “هناك اتفاقاً على أن يدفع العسكريون المتقاعدون نسبة 3 في المئة من رواتبهم كبدل للتقديمات الصحية، كما هو الحال مع الموظفين المدنيين”، علماً بأن “وزير الدفاع وعدَ بأن لا يطال هذا البند عائلات شهداء الجيش والقوى الأمنية”.
وبعد التراجع عن فكرة خفض الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد، كشفت المداولات في الحكومة عن “لغم” أساسي يتعلّق بالإتفاق على زيادة 2 في المئة على الرسوم الجمركية للبضائع المستوردة كافة، باستثناء الأدوية، حتى أواخر العام 2022. هذا البند يكاد يكون الجديد الوحيد الجدير بالنقاش، كونه يحمل ملامح لرؤية اقتصادية تقوم على تعزيز الإنتاج المحلي وحمايته. لكن زيادة الرسوم على كل البضائع المستوردة، من دون الأخذ بعين الاعتبار ما له بدائل من الانتاج المحلي، سمح بالتشكيك في الاقتراح من زاوية أنه أشبه بـ”ضريبة على الاستهلاك”. ولهذا السبب تحديداً عارضه وزراء حزب الله وحركة أمل وتيار المردة. فقد اعتبر هؤلاء أن هذه الضريبة ستطال كل اللبنانيين من ذوي الدخل المحدود والمتوسط والمرتفع، ما يجعلها ضريبة ظالمة، فضلاً عن أنها “سترتفع في السوق إلى 4 أو 5 في المئة”. هذه الضريبة بحسب المعلومات كانت تشمل كل البضائع، لكن اعتراض وزراء “الثلاثي” أدى إلى استثناء الأدوية. في المقابل، أصرّ رئيس الحكومة سعد الحريري والتيار الوطني الحرّ على أن هذا الرسم سيؤدي إلى حماية الإنتاج المحلي ودعم الصناعة، فرّد وزراء الحزب وأمل والمردة بأن “الضريبة يجب أن تشمل المواد التي لها بديل في السوق المحلي، مع الأخذ في الإعتبار ضرورة تجنّب الاحتكار عند حماية الإنتاج المحلي”. واقترح الوزير محمد فنيش بحث “رفع الضريبة على المواد التي لها بديل من إنتاج لبناني”، لكنّ عدداً من وزراء المستقبل و”لبنان القوي” أشاروا إلى أن هذا الإجراء لا يأتي بواردات كبيرة للخزينة، فردّ فنيش بالقول: “كلامكم يؤكّد أن ما تطرحونه ليس له أي هدف اقتصادي، إنما هدفه الوحيد هو زيادة إيرادات الخزينة”. لكن الاقتراح حظي بدعم أكثرية الحاضرين، ولم يعترض عليه سوى الوزراء السبعة (أمل وحزب الله والمردة).
لم يكُن هذا البند هو الوحيد الذي اعترض عليه هؤلاء الوزراء، إذ عبّر وزراء حزب الله تحديداً عن رفضهم لاقتراح أن تكون رواتب المتقاعدين مشمولة بضريبة الدخل. وحاجج فنيش بأن رواتب المتقاعدين هي “نتيجة لحسومات متراكمة من رواتب مشمولة أصلاً بضريبة الدخل، ما يعني أن المتقاعد سبق له أن دفع الضريبة على راتبه التقاعدي عندما كان لا يزال في العمل، وانه كان من واجب الدولة وبموجب قانون صادر في التسعينيات أن تقوم بتأسيس صندوق تجمع فيه هذه الحسومات، وتشغيلها، لكنها لم تفعل”.
مع كلّ تقدّم في النقاش، يظهر أكثر فأكثر أن مشروع الموازنة لا يحمِل أي رؤية اقتصادية، وليس فيه أي تغيير عن السياسات المعتمدة منذ عام 1992. يمكن تلخيص ما يجري بحثه باقتراح “ضريبة نارة يا ولد”، وهو اقتراح فرض ألف ليرة على كل “نفَس نرجيلة” يُقدّم في المطاعم والفنادق والمؤسسات المرخصة. فهذا الاقتراح يكشف طبيعة البنود التي تُناقَش، من دون أي رؤية “سياسية”. ففي الدول التي تُفرَض فيها رسوم مرتفعة على التبغ، إنما يكون ذلك بهدف خفض نسبة المدخنين بين السكان، وتمويل طبابة المدخنين الذين ترتفع احتمالات اصابتهم بأمراض شتى. لكن، في لبنان، تبدو الدولة كمن يريد تشجيع السكان على زيادة استهلاك المعسّل والتنبك، لزيادة الواردات، بصرف النظر عن صعوبة تطبيق فرض ضريبة كهذه في الكثير من المؤسسات والمقاهي.
يُضاف إلى ما تقدّم أنه رغم كل ما حُكي عن خفض للنفقات، يتبيّن من نسخة يوم أمس من مشروع الموازنة أنه بالمقارنة مع النسخة التي بدأ منها النقاش، طال الخفض الأساسي النفقات الاستثمارية، علماً بأن البلاد تعاني من أزمة نتيجة عدم إنفاق ما يكفي على هذا الجزء منذ العام 1992، ما انعكس سلباً على الوضع العام للبنى التحتية، كما على النمو الاقتصادي.
من جهة أخرى، أمكن تسجيل ملاحظات إضافية على مشروع الموازنة المعدّل، أبرزها:
– ثبّت مجلس الوزراء البدعة التي أرساها الرئيس الراحل للحكومة رفيق الحريري، ووزير ماليته فؤاد السنيورة، المخالفة للقانون، والتي جعلت من الموازنة “أم القوانين”، لجهة تضمينها مواد لا صلة لها بموازنة الدولة، بل يجب إقرارها بقوانين ومراسيم منفصلة. وعلى هذا الأساس، أتت المادة 79 من المشروع لتجيز للحكومة “إعادة القضاة الذين نقلوا من ملاكي القضاء العدلي والمالي ولم تنته خدماتهم الى ملاك القضاة الذي كانوا منتسبين إليه، بالدرجة الاقرب الى رواتبهم”. كذلك تُحدد هذه المادة المدة القصوى لانتداب قضاة مجلس شورى الدولة إلى وظائف إدارية أخرى، بست سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. هذه المادة تبدو “مدحوشة” في قانون الموازنة لتسوية أوضاع بعض القضاة الذي شغلوا، أو يشغلون، مناصب إدارية، كالمحافظين على سبيل المثال لا الحصر.
– يمكن وصف المادة 66 من مشروع الموازنة بأنها “نكتة الموسم”. فهذه المادة تقترح إلزام الحكومة بإصدار مراسيم وقرارات لاعتماد أسس جديدة للتطويع في المؤسسات الأمنية والعسكرية، كما لتخصيص السيارات والهواتف والمحروقات لغير الاستخدام العسكري. هذه المادة تُظهر قصور الحكومة عن فهم دورها التنفيذي، ودور مجلس النواب التشريعي. فهي لا تطلب إجازة من مجلس النواب لتنفيذ إجراءات ما، بل هي تسأله أن يُلزمها بإصدار قرارات ومراسيم توحي صيغة النص بأن مجلس الوزراء مقتنع بها. فإذا كان المجلس مقتنعاً بضرورة هذه الإجراءات، فلماذا يحتاج إلى قانون لإلزامه باتخاذها؟ ولماذا لا تبادر من تلقاء نفسها إلى تطبيق هذه الإجراءات؟