الفوضى الاقتصادية ومآلاتها

شهدت الأسواق العالمية تطوراتٍ مذهلة خلال الأسبوع الماضي الذي انتهى مساء الأحد الموافق 23 من شهر أغسطس/ آب الحالي. وقد تعمّق الخوف والقلق من فيروس كورونا المستجد الذي عاد بانتقام خلال هذا الشهر، بعدما بدأت الأسواق تشهد هدوءاً وأكثر انسجاماً في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) بسبب تراجع الإصابات والوفيات الناجمة عن الوباء في دول العالم.

وكما يقولون، لكل دورة اقتصادية مستفيدون منها ومتضرّرون بها أيضا، فقد لوحظ، خلال شهر أغسطس/ آب الحالي المجنون، ارتفاع غير مسبوق في بعض أسواق المال العالمية، وفي مؤشر ناسداك (Nasdac) الأميركي الشهير تحديدا، حينما تخطى حاجز الـ 30,000 نقطة. ورأينا مؤشر الشركات الأميركية الكبرى ستاندارد آند بورز (S&P) يكاد يصل إلى أعلى نقطة سجلها في تاريخه. وانطبق هذا الأمر، بشكل أقل وضوحاً ومستوى في أسواق العالم المالية في لندن وفرانكفورت وباريس وشانغهاي وغيرها من بورصات العالم.

وكذلك رأينا سعر الذهب الذي توقعنا حينها أن يقارب الـ 1,900 دولار للأونصة الواحدة قبل أكثر من شهر، قد حطم هذا الرقم، وتجاوز العلامة الفارقة، 2000 دولار ليصل إلى 2020 خلال الأسبوع الماضي.
وحتى أن المستثمر الأميركي الشهير الناجح، وارن بافت Warren Buffett، والذي طالما أبدى عدم احترام للاستثمار في الذهب، قد بدأ يشتري منه كمياتٍ كبيرة.

حساسية الأسواق الحقيقية

وفي المقابل، نرى الأسواق العادية أو الحقيقية تظهر حساسية واضحة تجاه تطورات آفة كورونا، فقد مالت التوقعات غير المتفائلة إلى هبوط أسعار السلع، لكن المؤشر الأهم هو ارتفاع أعداد المطالبين بتعويضاتٍ عن البطالة في الولايات المتحدة بحوالي 1.1 مليون شخص خلال الأسبوع المنتهي في 15 أغسطس، وبأعداد أدنى في الدول الصناعية الكبرى.

ولكن الصورة في الاقتصاد الواقعي (The real economy) مختلفة، فقطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذكاء الاصطناعي والبرمجيات وشركات الأدوية ومنتجي الكمّامات، وآلات التنفس الاصطناعي، وغيرها من المستلزمات والملابس والمعدّات الطبية ذات العلاقة تشهد ازدهاراً واضحاً، وكذلك نشطت السياحة الداخلية وقطاع الأغذية وتوصيلها وإعدادها. ومن الطريف أن شركات التوصيل، مثل أوبر وغيرها، شهدت ازدهاراً، بسبب زيادة الراغبين في هذا العمل، وبسبب زيادة الطلب على الخدمات، ما أكسب هذه الشركات أموالاً كبيرة ورفع أسهمها كثيراً.

ويذكر في هذا الصَّدد أن النموذج الذي اعتمدت عليه “أوبر” في عدم منح العاملين معها فرص عمل تعاقدية بمدد محدّدة هو سر نجاحها، لأنها لا تقدّم للعاملين معها (وليس فيها) تأمينات صحية، أو تعويضات نهاية خدمة، أو بدل تعطل، بل تقوم الفكرة على المشاركة وتقاسم الدخل.

لكن مجموعة العاملين مع الشركة تقدمت في كاليفورنيا بمطالب، مع التهديد بالإضراب. وإذا جاء قرار المحكمة، في نهاية المطاف، مؤيداً مطالب العمال، فإن النموذج الذي قامت عليه قصة نجاح “أوبر” ومثيلاتها سوف ينهار.

أسئلة مفتوحة

تصبّ محاولة قراءة التطورات السياسية كذلك في النتائج الاقتصادية والمالية المتقلبة في العالم، وتؤثر على توزيع المغانم والخسائر بين العاملين في الأسواق والمتعاملين معها، فهل ستحدث حربٌ هنا أو هناك؟

هل سيشهد العالم هدوءاً في الوطن العربي، كما حصل في حالة وقف إطلاق النار غير المتوقع في ليبيا؟ هل سنرى في الولايات المتحدة، كما بات متوقعاً، خسارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفوزاً لخصمه السياسي جو بايدن؟ إلى ماذا ستفضي نتائج التحقيق في انفجار مرفأ بيروت؟

إلى ماذا ستفضي هذه التقلبات على كل الساحات العربية والأفريقية والأميركية والأوروبية والآسيوية في نهاية الأمر؟

يقول بعضهم إنه لا مخرج من هذه الأزمات إلا بحربٍ عالمية. ولكن قد تكون محصورة في المحيط الهادئ، بين الولايات المتحدة والصين، وهل ستشترك روسيا فيها؟ وماذا سيجري بين إيران والغرب؟ أم أن العالم سيكتفي بإشعال حروبٍ إقليمية هنا وهناك؟

هذه العوامل كلها، بدءاً من الحروب والانقسامات، إلى الحروب التجارية والتكنولوجية، إلى جائحة كوفيد – 19، إلى تذبذب الأسواق، إلى هذا التراجع الاقتصادي الكبير، إلى اتّساع الهوة في الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء، وبين الدول، أضف إليها الارتفاع الحاد في الخلافات الاجتماعية والاحتكاكات بين مكونات الشعب الواحد داخل كل دولة، .. كل هذه التطورات السريعة المتشابكة، كيف ستنتهي؟

التنبؤ بالأحداث صعب

في حدود موضوعنا الحالي، نستطيع القول إن التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور لن يكون سهلاً على الإطلاق. وأمام أصحاب النماذج ذات الآلاف من المعادلات مهمة شبه مستحيلة في تركيب النموذج، وقياس نتائجه. وحتى لو أُنجِزت هاتان المهمتان، وقبلنا بصدقية المعلومات، هل نستطيع، بعد ذلك، فهم المؤشرات والاتجاهات التي سيفرزها لنا هذا التمرين؟

الأنكى من ذلك أنه لو دخل العالم في موجةٍ ثانيةٍ من جائحة كورونا الحالية، فهل يستطيع العالم تحملها؟ وهل بالإمْكان تجاوزها؟ أم أن العالم سيدخل في حالة صراع تنافسي حاد، ويتخلى عن المشاركة ليمارس الأنانية المطلقة، ما يجعل احتمالات الحروب أفضل من بقاء الحال المتدهور على حاله؟

خسارة العالم من كوفيد – 19 حتى الآن تقارب أربعة تريليونات دولار على الأقل، مقاسة بالتراجع في الناتج المحلي الإجمالي. إذا عادت الموجة الثانية، وصار ما حصل في الموجة الأولى، فإن الخسارة ستكون ضعف ذلك على الأقل، وسيفقد العالم جزءاً كبيراً من قدرته على الاستجابة.

 

 

مصدرالعربي الجديد - جواد العناني
المادة السابقةصندوق النقد … مؤسسة سيئة السمعة
المقالة القادمةالأرجنتين تنجح في هيكلة ديون بـ 65 مليار دولار.. وتطلب بدء محادثات مع “صندوق النقد”