لم تعد أسعار المحروقات التي قاربت الحد الأدنى الرسمي للأجور تفصيلاً عادياً في يوميات اللبنانيين. فالارتفاعات المتتالية المتأثرة بالتطورات الجيوسياسية خارجياً وارتفاع الدولار محلياً، لن تبقى مقتصرة على “إنهاك” القدرة الشرائية، إنما قد تتعداها إلى تنشيف المشتقات النفطية من الاسواق، والعجز عن تأمين الدولارات الكافية لتمويل شرائها.
كل المعطيات لغاية الآن تشير إلى استمرار ارتفاع أسعار النفط عالمياً. فعلى الرغم من تعهد تحالف “أوبك +” بزيادة الانتاج بمقدار 432 ألف برميل يومياً لشهر حزيران، فان تسارع فك الارتباط النفطي الأوروبي مع روسيا يفقد الاسواق كميات أكبر من النفط. خصوصاً أن روسيا وحدها مسؤولة عن إنتاج أكثر من 10 ملايين برميل يومياً. في المقابل تشهد كل من أنغولا ونيجيريا العضوان الأساسيان في منظمة “أوبك” انخفاضاً في الانتاج، قُدّر بحسب أرقام “المنظمة” بـ 300 و 400 ألف برميل على التوالي، أي ما مجموع 700 ألف برميل يومياً. كما ترخي مفاعيل إقرار اللجنة المعنية في الكونغرس الاميركي مشروع قانون “نوبك” (NOPEC No Oil Producing and Exporting Cartels -) بثقلها على دول تحالف “اوبك”. فتمرير مشروع القانون في مجلسي النواب والشيوخ، والتوقيع الرئاسي عليه من شأنه أن يتيح المجال لمقاضاة أعضاء “منظة البلدان المصدرة للبترول وشركائها”، في محاكم أميركا بتهم الاحتكار، وتنظيمهم تخفيضات في الإمداد لرفع الاسعار عالمياً.
البيع بالدولار!
هذه التطورات العالمية تترافق مع التوقع بامكانية توقف مصرف لبنان عن تأمين الدولار على سعر منصة صيرفة لاستيراد البنزين مطلع حزيران المقبل. عملياً، هذا يعني أن استيراد البنزين سيصبح على سعر السوق. إنما على ارض الواقع هناك “استحالة عند أصحاب المحطات لشراء البنزين بالدولار، وبيعه بالليرة في ظل التفاوت الحاد في سعر الصرف”، برأي عضو نقابة أصحاب المحطات د. جورج البراكس. وبالتالي، فان “أحد الحلول الآنية المقترحة في حال توقف مصرف لبنان عن تأمين الدولار لاستيراد المحروقات على سعر صيرفة هو تسعير المادة بالدولار”. إلا أن هذا الأمر يدخل البلد في دوامة لا تنتهي من الطلب على الدولار، وما تسببه هذه العملية من ارتفاع في سعر الصرف، ينعكس مزيداً من الارتفاعات في أسعار المحروقات… وهكذا دواليك.
ولكي لا يتفاجأ أحد بأي قرار بعد الانتخابات النيابية، ونعود إلى انقطاع المادة والاصطفاف أمام المحطات بالطوابير، على المسؤولين تحديد الخيارات المسقبلية ورسم سيناريوات الحل على أساسها ابتداء من اليوم. خصوصاً أن المحطات غير قادرة على شراء المواد بالدولار في حال رفض المستوردون تسليم المحروقات بالليرة، “لأننا ملزمون كتجار تجزئة ببيع المادة بالليرة، والتسعير بحسب جدول تركيب الأسعار الذي تصدره وزارة الطاقة والمياه”، يقول البراكس.
و”على كل المعنيين بالملف من وزارتي الطاقة والاقتصاد والشركات المستوردة والمحطات، التنسيق في ما بينهم لتحديد طريقة التعامل المستقبلية، وكيفية إدارة العملية في حال توقف المركزي عن تأمين الدولار”. ولكن ما يثير الخشية هو عدم اتخاذ أي تدبير جدي في ما خص البنزين، كأن تترك آلية التسعير للسوق من دون تدخل من وزارة الطاقة، والاستمرار بتحميل المواطنين والاقتصاد مغبة عدم تسليم المادة في حال وقف الدعم. ولنا في تجربة بيع المازوت بالدولار الماثلة أمامنا، و”المحكومة بقوى الأمر الواقع”، بحسب توصيف البراكس، خير مثال على تمييع الحلول وعدم معالجتها لا في الشكل ولا في المضمون، ولا في الوقت الماسب.
الخسائر بالجملة
أول القطاعات المتضررة من ارتفاع أسعار المحروقات هي المحطات بحد ذاتها. فمتوسط البيع في أغلبية المحطات المقدر عددها بـ 3200 محطة يبلغ 2000 ليتر يومياً، أو ما يعادل 100 صفيحة بنزين. تتقاضى المحطة عليها جعالة بقيمة 16 ألف ليرة أو ما يعادل مليون و600 ألف ليرة. “في المقابل يكلف توفير الطاقة للمحطة من أجل تشغيل المضخات ما يقارب 10 ليترات مازوت في الساعة الواحدة، بكلفة 295 ألف ليرة، أو ما يعادل 3 ملايين ليرة في اليوم الواحد”، بحسب البراكس. “هذا من دون احتساب كلفة الايجارات واليد العاملة والصيانة والرسوم والضرائب وغيرها من التكاليف”.
القطاعات التجارية تنازع
الخسارة تنسحب على القطاعات التجارية من دكاكين، وملاحم، ومحلات بيع الفروج ومقطعاته، والمخارط، والمحترفات الصناعية المنتشرة بكثرة في ضواحي المدن. فتوفير الكهرباء اللازمة للمحافظة على جودة البضائع، واستمرار عمل “الفبارك” أصبح فوق طاقة الغالبية العظمى من التجار والحرفيين. وإضافة هذه الكلفة على أسعار البضائع، يفوق من الجهة الاخرى قدرة غالبية المواطنين على الدفع.
الأمر الذي دفع المؤسسات إلى التوقف عن بيعها. ونتيجة لهذا الواقع أحجمت نحو 50 إلى 60 في المئة من المؤسسات التي تبيع اللحوم المبردة والمثلجة عن تسويقها، وأقفل عدد كبير من الملاحم”، بحسب رئيس نقابة تجّار اللحوم في لبنان جوزيف الهبر.
و”تراجع استيراد اللحوم المبردة والمجلدة من نحو 22 ألف طن في العام 2018 إلى 2500 طن حالياً. فيما انخفض استيراد اللحوم الحية للفترة نفسها من حدود 150 ألف طن سنوياً إلى 35 ألف طن حالياً”. وبحسب الهبر فان “قطاع بيع اللحوم يشهد انهيارات بالجملة. فعدا عن ارتفاع أسعار اللحوم عالمياً وتأثرها بسعر صرف الدولار محلياً، فان الانقطاع المتواصل في الكهرباء وتقنين اشتراكات المولدات لا يشجع المواطنين على شراء كميات كبيرة للتخزين أو التفريز، كما كانوا يفعلون سابقاً تحسباً لارتفاع الاسعار، بل إنهم يشترون حاجتهم اليومية فقط. الامر الذي ينعكس ارتفاعاً في أكلاف المؤسسات، وانخفاضاً كبيراً في نسب البيع والربحية”.
مخاوف من موجات تسمم
المعاناة من ارتفاع أسعار المحروقات وانعدام قدرة الغالبية العظمى من التجار والمستهلكين على التبريد، “ستنعكس ازدياداً في حالات التسمم مع بدء موسم الحر”، بحسب مسؤولة المراقبة والملاحقة في جمعية حماية المستهلك د. ندى نعمة. و”تحديداً في سلع مثل المثلجات والقشطة… التي تحتاج إلى تبريد على مدار الساعة”. والمشكلة ستتفاقم أكثر من وجهة نظر نعمة “مع عجز الجهات الضامنة من مؤسسات وصناديق وشركات على تغطية فروقات دخول المستشفيات وشراء الأدوية”. حالات التسمم التي ما زالت لغاية اليوم محدودة نتجية عدم تبليغ وزارة الصحة وتأخر موسم الحر، ستزداد في الفترة المقبلة. لذلك تنصح نعمة “المؤسسات العاجزة عن تأمين الطاقة من بيع المنتجات التي تحتاج إلى تبريد.
كما تنصح المواطنين بعدم التخزين في المنازل لتجنب فساد المواد الغذائية”.
كل الخيارات مرة والأمر هو ما ينتظر المواطنين بعد الانتخابات النيابية. خصوصاً إن صدقت التوقعات بفشل القوى المنتخبة في تشكيل حكومة سريعاً والانطلاق في رحلة الاصلاحات المطلوبة.