بعد مرور 3 سنوات على تفجّر الأزمة المالية والنقدية في لبنان، يتكرّر مشهد إغلاق القطاع المصرفي نفسه، برعاية جمعية المصارف ومصرف لبنان، وبعلم ودعم من السلطة السياسية اللبنانية. تُغلق أبواب المصارف بوجه المراجعين وتُفتح بوجه المحظيين. تُستكمل وراء أبواب المصارف المغلقة أعمال لا يدري بها سوى أصحابها. فما الرادع من تكرار سيناريو 2019 لتهريب الأموال إلى الخارج؟ وما المانع من تمديد الإغلاق لأسابيع أو تكراره؟ خصوصاً ان المصارف قررت الاستمرار بإغلاق أبوابها إلى أجل غير مسمّى.
الاقتصاص من اللبنانيين
يترك إغلاق المصارف في بلد مستقر اقتصادياً انعكاسات خطرة، لجهة تعطيل وشل كامل الحركة الاقتصادية، باعتبار المصارف المحرك الأساس للعجلة الاقتصادية. ولكن الحال في وضع لبنان ليس كحال باقي الدول، فاقتصاده معطل أصلاً. وعلى الرغم من تحول عمل المصارف اللبنانية إلى آلات سحب نقدي فقط، فإن إقفالها عطّل تلك الآلات. وهو ما يمكن فهمه كاقتصاص من المواطن والعامل والموظف، على ما يقول الخبير الاقتصادي وليد ابو سليمان في حديث لـ”المدن”. فالمصارف تكرّس بإغلاقها تعاملها باستنسابية مع العملاء، بدليل أن عملية ضخ الدولارات عبر منصة صيرفة لا يزال مستمراً، رغم إغلاق أبوابها بوجه المواطنين. وإذا كان بعض التجار يتمكنون من شراء الدولارات، فهل مهمة صيرفة تقتصر على تقديم الخدمات للمحظيين والقادرين على الاستفادة من خدماتها رغم إقفال المصارف؟
وفي جولة سريعة على بعض المصارف، يتبيّن أن منها من يزوّد الصرافات الآلية بالليرة والدولار، لكن بمبالغ ضئيلة يومياً خلال فترة إغلاق المصارف. مصارف أخرى لم تزود الصرافات الآلية بالدولار منذ نهاية الأسبوع الفائت، في حين أن غالبية المصارف حصرت عمليات تأمين السيولة النقدية بفروع معيّنة وصرافات آلية محدودة.. بالنتيجة، يكرّس إغلاق المصارف ممارساتها الاستنسابية مع العملاء المصرفيين، والفوضى والاقتصاص من عموم المواطنين من دون أي رادع.
وكما يتخوف أبو سليمان من تكرار سيناريو 2019، يتخوف كُثر من قيام المصارف بعمليات تحويل أموال خلال فترة إغلاقها. ويقول أبو سليمان “لا أحد يعلم ما الذي يحصل اليوم في أروقة المصارف”، متسائلاً: ما الضامن لعدم تحويل أو تهريب ما تبقى من أموال المودعين إلى الخارج؟ لا ضمانة، لا شفافية، لا مراقبة من لجنة الرقابة على المصارف.
المصارف مغلقة ولكن
تغلق المصارف أبوابها إلى أجل غير مسمى. فالبيان الذي أصدرته جمعية المصارف ليل أمس الأربعاء، لم يورد أمد فترة الإغلاق، بل اكتفت الجمعية بالتأكيد على إبقاء “أبوابها مغلقة قسرياً في الوقت الحاضر في ظل غياب أية إجراءات أو حتى تطمينات من قبل الدولة والجهات الأمنية كافة بهدف تأمين مناخ آمن للعمل”، حسب ما جاء في بيانها.
وهذا يعني ان المصارف مستمرة بالعمل بالأيام القليلة المقبلة، بأقل تقدير، على غرار الأيام السابقة التي أغلق فيها أبوابها. فغالبية المصارف استمرت بالعمل في بعض فروعها وبعدد محدود من الموظفين من دون فتح أبوابها بوجه الزبائن. وهو ما يفسّر عملية التداول عبر منصة صيرفة بعشرات ملايين الدولارات يومياً.
من هنا ترى عضو رابطة المودعين، المحامية دينا أبو زور، أن المصارف تستغل أموال صيرفة بشكل مفضوح لصالح جيوب كبار المودعين والتجار المحظيين والمتمولين الذين تربطهم علاقات معها، متسائلة أين تذهب أموال صيرفة البالغة يومياً بين 20 مليون و40 مليون دولار. وتلفت أبو زور إلى الأثر السلبي الذي يتركه إغلاق المصارف على صغار المودعين والموظفين الموطنة رواتبهم، الذين لم يتمكنوا من الاستفادة من صيرفة، ومنهم من لم يتمكن من سحب راتبه حتى. وتقول: “فعلياً، كبار التجار وحدهم من استفاد من إغلاق المصارف”.
وتعرب أبو زور عن قلقها من محاولة المصارف -من وراء تصعيدها- تهريب ما تبقى من أموال إلى الخارج، ومن ثم ممارسة الضغط على السلطة لإقرار قانون الكابيتال كونترول سريعاً. مخاوف أبو زور تؤكدها مطالبات عدد من المصرفيين الذين ارتفعت أصواتهم في اليومين الماضيين للمطالبة بإقرار الكابيتال كونترول.
إغلاق إلى متى
وإذ يستنكر أبو سليمان تسلط المصارف ومزاجيتها “فهي تحكم وتقرر الإقفال ولا رادع لإغلاقها على مدى أسابيع عدة. فليس هناك ما يمنعها”، يؤكد أحد المصرفيين في حديث لـ”المدن” بأن لا عودة إلى العمل “إلا في أجواء آمنة”. وهنا لا بد من السؤال مَن سوى المصارف يمكنه تحديد الأجواء الآمنة وموعد العودة إلى العمل؟
ويرجّح المصرفي استئناف عمل بعض المصارف الأسبوع المقبل، من دون أن يحدد ما إذا كانت مطلع الاسبوع، مدّعياً تلقي جمعية المصارف تأكيدات من وزارة الداخلية بوضع خطة أمنية من شأنها تجنيب المصارف أي اقتحامات بعد استئنافها العمل. ولكن يبقى قرار فتح المصارف للجمعية التي قد يكون لديها اعتبارات أخرى. في المقابل، ينفي مصدر موثوق في وزارة الداخلية أي توجه لتسخير القوى الأمنية لحماية المصارف. وهو ما يفتح الباب على أزمة جديدة بين المصارف ووزارة الداخلية، قد تؤدي إلى تمديد جديد لفترة الإغلاق.
وكانت “المدن” نقلت عن مصادر مصرفية توجّه عدد كبير من المصارف إلى اعتماد إجراءات مشدّدة بعد فتح أبوابها، يرجّح أن تعتمد تحديد مواعيد مسبقة لعملائها، قبل استقبالهم في الفروع المصرفية، بالإضافة إلى حصر الموافقة على دخول المصرف بعدد قليل من العملاء، قد لا يتجاوز 5 أفراد. أما الإجراء الأبرز الذي تصر بعض المصارف على التمسّك به وتطبيقه، فهو التعاون مع فرق أمنية خاصة، تتولى مسألة تفتيش العملاء قبل دخولهم إلى المصارف. وهذا الإجراء لا يزال النقاش حوله مستمر لحساسية تطبيقه.