وفد صندوق النقد يؤجل ملف لبنان..لأن الأزمة تتفاقم

كما كان متوقّعًا، غادرت بعثة صندوق النقد العاصمة بيروت خاوية الوفاض، بعد أنّ تبيّن لها أنّ لبنان لم ينفّذ أبسط شروط الاتفاقيّة المعقودة على مستوى الموظفين مع الصندوق، رغم مضي خمسة أشهر على هذا التفاهم. ولذلك، لن تتمكّن البعثة من طرح ملف لبنان أمام إدارة الصندوق العليا، في اجتماعاتها المحددة في العاشر من تشرين الأوّل المقبل، بعدما كان من المخطط أن يُطرح طلب برنامج القرض الخاص بلبنان في ذلك الوقت.

وكان من الواضح أنّ إحباط البعثة من أداء المسؤولين اللبنانيين انعكس بوضوح في بيانها الختامي، الذي حمل لهجة قاسية بلغت حد تحميلهم مسؤوليّة حالة الركود القاسية، وأكلافها على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، في خروج لافت عن لهجة بيانات صندوق النقد المعروفة بتحفّظها ودبلوماسيّتها.

الركود الشديد نتيجة تأخّر تنفيذ الإصلاحات

قبل أن يشرع البيان في تفصيل رأي البعثة بمختلف الملفّات التي نص عليها التفاهم على مستوى الموظفين، لخّصت المقدّمة استياء الصندوق من العراقيل التي كبحت التقدّم بأي من هذه الملفّات. فبرأي البعثة، وعلى الرغم من الحاجة الملحّة لاتخاذ إجراءات لمعالجة الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة العميقة في لبنان، فإن التقدّم في تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها بموجب الاتفاقيّة على مستوى الموظفين في نيسان لا يزال بطيئًا للغاية. ثم يشير البيان بصراحة شديدة: لم يتم تنفيذ غالبيّة الإجراءات المسبقة المحددة في هذا الاتفاقيّة.

ولهذا السبب بالتحديد -بحسب البيان- “لا يزال الاقتصاد اللبناني يعاني من الركود الشديد، في ظل استمرار حالة الجمود في ما يخص الإصلاحات الاقتصاديّة، التي تشتد الحاجة إليها مع ارتفاع حالة عدم اليقين”. أمّا كلفة عرقلة هذه الإصلاحات من قبل المسؤولين اللبنانيين، والمضي في حالة السقوط الحر، فيلخّصها البيان على النحو التالي: انكماش الناتج المحلّي بنسبة تجاوزت 40% منذ العام 2018، وتسجيل معدّلات تضخّم من ثلاثة أرقام، وتَواصل استنزاف احتياطات مصرف لبنان، بالإضافة إلى استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، والذي تجاوز حدود 38 ألف ليرة. ثم يتابع البيان “ووسط انهيار الإيرادات والإنفاق المنكمش بشكل كبير، فشلت مؤسسات القطاع العام وانقطعت الخدمات الأساسية للسكان، فيما سجّلت البطالة والفقر معدلات عالية وقياسيّة”.

وفي النتيجة، وحسب الصندوق، يساهم تأخّر تنفيذ هذه الإصلاحات المتفق عليها في زيادة أكلاف الأزمة على البلاد والسكّان، فيما يُفترض أن ينفّذ لبنان هذه الإجراءات قبل تقديم طلب انخراط لبنان في برنامج مالي مع الصندوق. وبالرغم من حالة التعثّر الراهنة التي يصفها البيان، تعود البعثة للتأكيد بأنها ستستمر بمداولاتها مع المسؤولين في لبنان، لمحاولة المضي بتنفيذ “الأجندة الإصلاحيّة” المتفق عليها.

كما حرص البيان في مقدّمته على التركيز على نقطة بالغة الأهميّة بالنسبة للصندوق، وهي ضرورة تحديد ومعالجة خسائر القطاع المصرفيّ بصورة عاجلة، مع احترام تراتبيّة الحقوق والمطالب (أي البدء بشطب الرساميل قبل تحميل المودعين أي خسارة). كما أشار البيان إلى ضرورة حماية أصحاب الودائع الصغيرة في إطار أي عمليّة لإعادة هيكلة للقطاع المصرفي، مع الحد من استعمال المال العام وأملاك الدولة في هذا المسار، بما يسمح بإفادة جميع اللبنانيين من هذه الأموال والأملاك بمعزل عن ما إذا كانوا مودعين أو لا. ولعلّ التركيز على هذه النقطة بشكل واضح في مقدّمة البيان، جاء لإدراك بعثة الصندوق بنوعيّة العراقيل التي تحول دون تنفيذ معظم الإصلاحات، التي تتصل بشكل وثيق بالمصالح المتشابكة بين المنظومة السياسيّة والقطاع المصرفي.

انتقلوا إلى موازنة 2023

لم يقر البرلمان بعد موازنة العام 2022، والتي كانت تمثّل أحد شروط الاتفاقيّة على مستوى الموظفين مع صندوق النقد. ولهذا السبب، يشير البيان إلى أنّ التأخّر الطويل في إقرار هذه الموازنة يفرض انتقال التركيز إلى إعداد ميزانيّة 2023، وإقرارها، على أن تستند هذه الموازنة على افتراضات واقعيّة للاقتصاد الكلّي. كما رأت بعثة الصندوق أنّ الموازنة يُفترض أن تتخذ التدابير اللازمة لزيادة الإيرادات، مع استخدام سعر صرف واقعي للجباية، يمكن أن يكون سعر منصّة صيرفة الذي يجب أن يصبح سعر السوق بعد توحيد سعر الصرف. وفي النتيجة، “يجب أن يسمح هذا الأمر بزيادة كبيرة في الإنفاق الاجتماعي والاستثماري، لإعادة تشغيل العمل الأساسي للإدارة العامة في وقت تختفي فيه الخدمات العامة مع تأثير ملحوظ على تحصيل الإيرادات”.

وهنا، يبدو من الواضح أنّ بعثة الصندوق سجلت تحفّظاتها الخاصّة على كيفيّة مقاربة المجلس النيابي لمشروع قانون موازنة 2022، وتحديدًا من جهة الطريقة العبثيّة في تحديد سعر صرف الدولار الجمركي، وتحديد سيناريوهين لسعر الصرف هذا بشكل اعتباطي لا يستند إلى أي استراتيجيّة لتوحيد سعر الصرف.

العشوائيّة في سياسة مصرف لبنان النقديّة

ثم ينتقل البيان إلى التصويب على سياسة مصرف لبنان النقديّة، من خلال الحديث عن آثار استمرار تعدديّة أسعار الصرف بشكل غير مبرّر وغير مفهوم. فوجود أسعار صرف متعددة “يتسبب باختلال كبير في النشاط الاقتصادي، ويقوض عمل القطاع العام، ويخلق فرصًا للفساد والسعي وراء الربح، مما يؤدي إلى ضغوط مفرطة على احتياطيات العملات الأجنبية في المصرف المركزي”. ولهذا السبب، يشدد البيان على أن اعتماد قانون للكابيتال كونترول هو أمر “بالغ الأهمية لمعالجة هذه القضايا، وتقليل الضغوط على احتياطيات المصرف المركزي من العملات الأجنبية”.

ثم أنهى البيان حديثه عن السياسة النقديّة بانتقاد واضح لإجراءات ضخ الدولار التي اعتمدها مصرف لبنان منذ بداية السنة، معتبرًا “أن التدخل في سوق أسعار الصرف لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف هو أمر غير فعال في غياب الإصلاحات المطلوبة بشدة”.

مع الإشارة إلى أنّ توحيد أسعار الصرف، والانتقال إلى سعر صرف عائم، مثّل أحد شروط الاتفاق على مستوى الموظّفين مع الصندوق، وهو ما لم يتم تنفيذه في ظل استمرار اعتماد مصرف لبنان لسياسة أسعار الصرف المتعددة.

أفخاخ تعديلات قانون سريّة المصارف

يصوّب البيان بشكل واضح وصريح على الأفخاخ التي قام المجلس النيابي بنصبها في تعديلات قانون سريّة المصارف، والذي “لم يرتق إلى التغييرات اللازمة لجعله يتماشى مع أفضل الممارسات الدوليّة”. ولذلك، أشار البيان بلهجة دبلوماسيّة إلى أنّه سيرحّب بمراجعة البرلمان لبعض أوجه القصور الرئيسية في القانون، والتي تعتبر أساسية لمكافحة الفساد، وإزالة العوائق التي تحول دون الإشراف الفعال على القطاع المصرفي وإعادة الهيكلة، وإدارة الضرائب، وكذلك التحقيق في الجرائم المالية واستعادة الأصول المختلسة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ صندوق النقد كان قد لخّص تحفّظاته على تعديلات قانون سريّة المصارف التي وافق عليها مجلس النوّاب، في مذكّرة مفصّلة تسرّبت نسخة منها إلى وسائل الإعلام (راجع المدن)، ما أفضى إلى رد القانون إلى المجلس النيابي من قبل رئيس الجمهوريّة.

بالإضافة إلى كل ما سبق، يعيد البيان التذكير بمواقف صندوق النقد المعتادة من مسارات الحلّ التي يشدّد عليها، وخصوصًا في ما يتصل بكيفيّة إعادة هيكلة المصارف، وعدم ربط الخسائر المصرفيّة بالميزانيّة العامّة. وفي الخلاصة، شدد البيان إلى أنّ تنفيذ البنود المذكورة في الاتفاقيّة على مستوى الموظفين يمثّل شرط مسبق، قبل طرح ملف لبنان على مجلس مديري الصندوق، في إشارة غير مباشرة إلى أنّ البعثة لن تطرح ملف لبنان على المجلس خلال اجتماعات الخريف المقبلة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالمصارف مغلقة: هل يتكرّر سيناريو تهريب الأموال 2019؟
المقالة القادمة“غسل الأيدي” من القطاع الإستشفائي ينذر بتحول البلد إلى “مقبرة” كبيرة