نشرب مياه القناني او الغالونات ونطمئن إلى كوننا في منطقة الأمان بعيداً عن تلوث مياه الشفة التي تأتينا (او لا تأتينا) من مصالح المياه الرسمية، ولكن مع الفوضى والعشوائية المطلقة السائدة في عملية تكرير المياه وتعبئتها هل لا يزال بإمكاننا الوثوق بها ونوعيتها وصحتها؟ ومع ارتفاع اسعار المياه المعبأة بشكل يفوق التصور هل لا نزال قادرين على تحمل كلفتها؟ أم أن مياه الدولة على علاتها تبقى الحل أمام اللبناني؟؟
سيل المغتربين والسياح المتدفق إلى لبنان هذا الصيف يتوقع أن يشعل سوق المياه المعبأة وإليه تضاف أزمة انفجار قسطل الضخ الرئيسي 1200الذي يغذي بيروت ومنطقة ساحل المتن بمياه الشفة وترافقه أزمة عدم ثقة متجذرة لدى المواطن اللبناني بمياه الشرب التي تصل الى بيته، لتصبح مياه القناني والغالونات مصدر مياه الشرب الوحيد لدى جزء كبير من المواطنين. أسماء مألوفة لمياه معروفة المصدر والهوية والتسمية وأسماء غريبة مستجدة لمياه مجهولة الحلة والنسب ومشكوك بمصدرها ونوعيتها. 41 شركة مياه مرخصة من قبل وزارة الصحة وتخضع لرقابة دورية بينها الأسماء الكبرى المعروفة، أما الباقي فدكاكين لبيع المياه المكررة لا رقيب عليها ولا حسيب.
لا تخشوا الكلور
من بين الشركات المرخصة يؤكد أحد الخبراء أن 20 شركة فقط حريصة على إرسال عينات المياه لفحصها شهرياً في مختبرات تابعة لوزارة الصحة او إرسال نتائج التحاليل الى الوزارة وهذه العينات غالباً ما تكون مطابقة للمواصفات وخالية من أي نوع من التلوث الكيميائي أو الجرثومي. لكن رغم ذلك اشتكى كثر من المواطنين من طعم الكلور الذي يلحظونه في عدد من أنواع المياه المعبأة لا سيما مياه الغالونات التي يتم توصيلها الى البيوت.
هذا الأمر يراه رئيس قسم الصحة والبيئة ومدير مختبر البيئة والمياه في الجامعة اللبنانية د. جلال حلواني أمراً طبيعياً وصحياً. فالكلور أو الجافيل هو عدو الجراثيم، ونسبة الكلور المتبقي في المياه بعد معالجتها ينبغي أن تكون 0,5 ملغ في الليتر الواحد لضمان عدم تلوث المياه بالجراثيم وحين تصل النسبة الى 1 ملغ يصبح طعم الكلور ظاهراً في المياه. هذا التركيز لا تأثير له على الصحة إلا أنه مزعج الطعم لذلك ينصح بفتح عبوة المياه المعلبة او وضعها في البراد لتخفيف طعم الكلور فيها. وهنا يجدر الذكر أن تعقيم المياه ضد التلوث بالجراثيم هو مرحلة ثانية تأتي بعد التأكد من خلوها من الملوثات المعدنية أو ما يعرف بالتلوث الكيميائي.
هذا التفسير يفتح الباب على الكثير من الأسئلة حول طرق تعقيم المياه وتعقيم العبوات البلاستيكية التي تعبأ فيها وإذا كانت تتم معالجة كل أنواع المياه المعبأة بالطريقة نفسها؟
مياه بمسميات مختلفة
يشرح د. حلواني قائلاً إن المياه المعبأة تخضع لتصنيفات قانونية ومتعارف عليها عالمياً ومن قبل منظمة الصحة العالمية. فالمياه المعدنية هي مياه طبيعية خالية من الجراثيم من المصدر ولا تخضع لأية عملية معالجة ولها جوانب صحية مؤكد عليها من قبل مصادر صحية عالمية مع تركيز ثابت ونسبٍ متوازنة من الاملاح والعناصر النادرة. وهنا يؤكد الخبير في المياه انه غير مقتنع بوجود ما يسمى مياه معدنية طبيعية في لبنان وحين نبدي دهشتنا للأمر يشرح أن في لبنان مياه نبع (eau de source) وهي بالطبع مياه خالية من الملوثات من المصدر ولا تخضع لأية معالجات وذات نوعية عالية لكن لم يتم إجراء تجارب أكاديمية عليها او في المستشفيات لإثبات أن لها جوانب صحية مؤكد عليها كما المياه المعدنية المعروفة عالمياً.
كلام قد لا يروق لأسماء كبيرة تتغنى بكونها مياه معدنية، لكن د. حلواني يصر على رأيه و يتابع شارحاً أنواع المياه قائلاً، إن المياه التي تتم معالجتها لتصبح صالحة للشرب تسمى مياه مائدة او مياهاً للشرب ( eau de table) والمعالجة تتم بطرق مختلفة منها الكلور او الأوزون او بواسطة الأشعة فوق البنفسجية أو بوسائل أخرى مثل التقطير أو الترشيح وغيرها. و»دكاكين» المياه المكررة التي باتت تملأ لبنان وقسم كبير منها غير مرخص تأتي بمياهها في أحسن الأحوال من بئر قريبة او من مصدر مشكوك بأمره ليتم تعقيمها بواسطة الكلور او بالطرق المذكورة آنفاً.
في لبنان مرسوم يجبر الشركات التي تعبئ المياه على وضع التحليل الكيميائي أي نسبة المعادن والأملاح في المياه ومصدرها كما رخصة الشركة مطبوعة على كل عبوة. ولكن عدا بعض الشركات الكبرى المعروفة فإن معظم عبوات المياه المكررة لا تحمل كما تأكدنا بأم العين اي ذكر لتحليل المياه او رخصة الشركة وهذا إن دل على شيء فعلى فوضى هذا القطاع وغياب المراقبة.
من يضمن سلامة العبوات؟
تخضع عملية تعبئة المياه بأوعية لضوابط صحية وبيئية وهندسية ولا يسمح عادة في الدول التي تحترم قوانينها ومواطنيها ببيع المياه من قبل أية جهة إذا لم تلتزم بهذه الضوابط والمعايير، فالمياه سلعة أساسية لحياة الإنسان يقول د. حلواني وبيعها يجب أن يكون لأهداف إنسانية وليس للربح التجاري. وعلى من يقوم ببيع المياه أن يبين مصدرها ونوعيتها وان يعمل على مراقبتها ومراقبة العبوات التي توضع فيها وطرق تعقيم هذه العبوات وتخزينها.
هنا يضاف سؤال مقلق آخر الى كل الأسئلة التي تراودنا حول المياه ونوعيتها هو السؤال عن نوعية العبوات البلاستيكية ومدى سلامتها وطرق تعقيمها. من يراقب كل هذه الأمور ويحرص على كون العبوات سليمة وغير ضارة بالصحة؟
يشرح د. حلواني طرق تصنيع عبوات المياه قائلا إن ثمة قوانين تفرض على مصانع المياه المعدنية الطبيعية أن تصنع العبوات في المكان نفسه الذي تتم فيه تعبئتها أي تصنع القناني وتعبأ على الفور بعد أن تبرّد وتختم حتى تكون معقمة وتكون عملية التعبئة ميكانيكية تخضع لضوابط صارمة للتأكيد على خلو العبوات من اية ملوثات. ومعظم الشركات الكبرى المحترمة لديها وحدة لتصنيع القناني في مصنع التعبئة.
أما الغالونات سعة 19 ليتراً فهي لا تستعمل للمياه المعدنية بل تعبأ فيها مياه المائدة او مياه الشرب وهي تعقم بالكلور ليعاد استخدامها مرة بعد أخرى، وتصنع من نوع من البلاستيك يمكن أن يعاد تعقيمه واستخدامه لعشرات المرات فيما قناني المياه تصنّع عادة من مادة البولي إيتيلين ولا ينصح باستعمالها أكثر من ثلاث مرات. والمشكلة هنا أن الغالونات سعة عشرة ليترات والتي تعبأ فيها المياه المكررة مصنوعة هي الأخرى من مادة البولي إيتيلين ولا ينصح باستخدامها أكثر من ثلاث مرات وإلاّ لا تعود مياهها صالحة للشرب. وهذا الخطأ الصحي الخطر يقع به الكثير من المواطنين حين يحملون الغالونات ذاتها مراراً وتكراراً الى مصانع او دكاكين تعبئة المياه ليقوموا بإعادة تعبئتها وتوفير سعر العبوة غير مدركين ما لذلك من مخاطر على صحتهم.
ويعدد د. حلواني سلسلة إضافية من المطبات التي يمكن أن تعرض المياه للتلوث وبالتالي تعرض من يشربها لخطر الإصابة بمشاكل صحية وهضمية ويقول إن المياه هشة يمكن أن تتلوث بسرعة وتلتقط البكتيريا من الهواء لتتكاثر داخلها من هنا أهمية أن تتم التعبئة في مكان معقم وأن يكون الأشخاص الذين يقومون بتعبئة المياه وحمل الغالونات معقمين وأن يتم تعقيم الأوعية بالكمية الكافية من الكلور وفي حال وجود اي خلل في سلسلة التعقيم هذه تصبح المياه عرضة لخطر التلوث واحتمال دخول الجراثيم إليها.
وتطول سلسلة التحذيرات ومع ارتفاع سعر المياه المعبأة يصبح البحث عن مصادر مياه أقل كلفة هو الشغل الشاغل للمواطنين ولو على حساب نوعية المياه وصحتها. حتى عين الضيعة عاد لها عزها والينابيع الجبلية عادت تشهد زحمة ناس ينتظرون ملء غالوناتهم. ولكن لسوء حظ اللبناني يجزم د. حلواني الخبير البيئي في شؤون المياه أن كل الينابيع الواقعة ما دون ارتفاع 500 متر ملوثة ولا يمكن استخدامها للشرب، اما ما فوق 500 متر فهي مشكوك في أمرها ويستحسن استخدامها لغسل الخضار والفاكهة لا للشرب ووحدها الينابيع التي تعلو 1000 متر هي ينابيع صالحة للشرب وذات نوعية مياه جيدة. لذا ينصح المواطنين بغلي هذه المياه او وضعها في الشمس بعبوات زجاجية او إضافة ملعقة من الكلور السائل إليها لا سيما أن الكلور غير مكلف وهو صديق للصحة لتصبح صالحة للشرب.
تراجع مقلق في استهلاك المياه
سعر غالون المياه سعة 19 ليتر وصل الى 50000 ليرة ومرشح للتصاعد وسعر قنينة المياه الصغيرة سعة نصف ليتر لا يقل عن خمسة آلاف ليرة سواء كانت معدنية او مياه مائدة، وفي المطاعم والمسابح يتضاعف هذا السعر مرات ومرات لتصبح المياه المعلبة سلعة ثمينة في حين أن اليونيسف تعتبر أن تأمين وصول مياه الشرب النقية للناس أولوية مطلقة لا يجب المساومة فيها وأن نصيب الفرد من مياه الشرب لا يجب أن يقل عن ليترين صيفاً وليتر شتاء وينصح بالوصول الى ليتر ونصف شتاء وثلاثة صيفاً. لكن الأسعارالمرتفعة جعلت استهلاك المياه المعبأة يتراجع بحسب ما قاله لـ»نداء الوطن» المسؤول عن التوزيع في شركة مياه تنورين غسان جعجع. فالتوزيع هذا الصيف قد تراجع بنسبة كبيرة عن السنة الماضية وحتى مجيء المغتربين لم يساهم حتى اللحظة في تحسين الوضع. ربما يتحسن الأمر لاحقاً وما زلنا ننتظر تحسن الحركة يؤكد مسؤول التوزيع ولكن ما هو مؤكد حتى الآن أن قدرة المواطنين على شراء المياه المعبأة قد انخفضت بشكل كبير والدليل ان محلات «ناولني» المنتشرة على الطرقات تراجع بيع المياه عندها بنسبة 50%. وحين نسأل عن التساوي في الأسعار بين المياه المعدنية ومياه المائدة في حين يجب أن تكون الأولى أغلى ثمناً يجيبنا بأن كلفة تصنيع القنينة هي ذاتها عند الطرفين وقد ارتفعت بشكل كبير كما أن شركات المياه الكبرى بات بعضها مضطراً للبيع بسعر أقل للحفاظ على الاستمرارية وإلا عليه ان يقفل مصنعه ويبيعه خردة…